أوروبا القديمة وذوي الإعاقة موضوع يثير الجدل دائما في الأوساط التاريخية والحقوقية. يتهم البعض هذه الحضارات بالقسوة المطلقة تجاه الضعفاء. لذلك، سادت فكرة أن اليونان وروما كانتا مجتمعات تتخلص فورا من أي طفل لا يطابق معايير الكمال الجسدي.
لكن الحقيقة التاريخية قد تكون أكثر تعقيدا وتنوعا من هذه الصورة النمطية القاتمة. هذا التقرير يغوص في الوثائق والأبحاث الحديثة لكشف المستور.
أوروبا القديمة وذوي الإعاقة
ارتبطت أوروبا القديمة وذوي الإعاقة في أذهاننا بأسطورة إسبرطة العسكرية الصارمة. حيث زعم المؤرخ بلوتارخ في كتاباته أن الإسبرطيين كانوا يعرضون المواليد الجدد على مجلس من الشيوخ لفحصهم. وفقا لروايته، كان الأطفال الذين يعتبرون «مشوهين» يلقون في مكان يدعى «أبوثيتاي» (Apothetae) ليموتوا. حسب كتاب تاريخ الفلسفة الغربية لبرتراند راسل.
مع ذلك، أثبتت الحفريات الحديثة عدم دقة هذه الرواية الشائعة. فقد أشارت دراسة أثرية نشرتها ناشيونال جيوغرافيك إلى أن بقايا العظام التي عثر عليها في هذا الموقع تعود لبالغين وليس لرضع. لذلك، كما يرى الباحثون أن رواية بلوتارخ، الذي كتب بعد قرون من الحدث، قد تكون مبالغة أدبية لتعزيز صورة إسبرطة القاسية.
دعا فلاسفة اليونان الكبار مثل أفلاطون وأرسطو صراحة للتخلص من الأطفال «المشوهين» لضمان نقاء وقوة الدولة. في كتابه «السياسة»، أوصى أرسطو بسن قانون يمنع تربية الأطفال الذين يعانون من تشوهات جسدية. بناء على ذلك، تشكلت صورة فلسفية قاتمة عن أوروبا القديمة وذوي الإعاقة.

التنظير القاسي والواقع المغاير
ومع ذلك، كان الواقع الاجتماعي يختلف كثيرا عن النظريات الفلسفية المثالية. حيث أظهرت أبحاث عالمة الآثار ديبي سنيد وجود أدلة واسعة على أن الآباء اليونانيين غالبا ما تجاهلوا هذه التوصيات القاسية. في الواقع، تظهر الاكتشافات الأثرية لبقايا رضع أنهم تلقوا رعاية طبية واهتماما حتى وفاتهم لأسباب طبيعية، مما يدحض فكرة الإبادة المنهجة.
في روما، نصت «الألواح الاثنا عشر»، وهي أساس القانون الروماني، صراحة على قتل الطفل «المشوه بشكل مروع» بسرعة. هذا القانون يعكس جانبا من قسوة أوروبا القديمة وذوي الإعاقة في النصوص التشريعية المبكرة. إضافة إلى ذلك، كان لرب الأسرة (Paterfamilias) سلطة مطلقة في تقرير مصير أي طفل يولد في منزله، سواء بقبوله أو رفضه.
طالع: عنف وجنس وتجويع.. ذوو الإعاقة ضحايا مؤسسات التأهيل في أوروبا
لكن، يشير المؤرخون إلى أن التطبيق الفعلي لهذا القانون لم يكن شاملا أو إلزاميا في كل الحالات. حسب نقاشات المؤرخين، كان العرف الاجتماعي يحد أحيانا من هذه السلطة المطلقة. كما أن الإمبراطور فالنتينيان قام لاحقا في عام 374 ميلادية بتجريم وأد الأطفال، مما يوضح تطور النظرة القانونية عبر القرون.
منحدرات المعابد الشافية
على عكس الصورة السائدة عن الإهمال، كشفت دراسات حديثة عن وجود بنية تحتية مصممة خصيصا لذوي الإعاقة. فقد نشرت مجلة «Antiquity» دراسة للباحثة ديبي سنيد حول وجود منحدرات حجرية في المعابد اليونانية. كانت هذه المنحدرات، خاصة في معابد الشفاء مثل معبد أسكليبيوس في إبيداوروس، تهدف لمساعدة ذوي الإعاقة الحركية على الوصول.
إذن، أوروبا القديمة وذوي الإعاقة شهدت نوعا من الرعاية المعمارية المتقدمة التي سبقت عصرنا. حيث تم العثور على 11 منحدرا حجريا في معبد إبيداوروس وحده، مما يشير إلى تدفق مستمر للحجاج من ذوي الإعاقة طلبا للشفاء. هذا يؤكد أن المجتمع اليوناني لم يقص هؤلاء الأفراد، بل سعى لتوفير سبل الوصول لهم في الأماكن المقدسة.
ولعبت الأساطير دورا معقدا في تشكيل النظرة إلى الإعاقة. فقد عبد اليونانيون الإله هيفايستوس، إله النار والحدادة، الذي كان يعاني من عرج واضح وتشوه في قدميه. هذا يثبت أن الإعاقة الجسدية لم تكن تمنع الوصول إلى مرتبة الألوهية والقداسة في الفكر اليوناني. بالتالي، كانت النظرة إلى أوروبا القديمة وذوي الإعاقة متنوعة وليست أحادية الجانب.
أوروبا القديمة وذوي الإعاقة والقوامة
من ناحية أخرى، تعرض هيفايستوس للسخرية من الآلهة الأخرى بسبب مشيته، مما يعكس التناقض الاجتماعي في التعامل مع الإعاقة. حيث كان يتم تقدير المهارة الحرفية العالية للشخص ذي الإعاقة، وفي نفس الوقت قد يكون عرضة للتنمر الاجتماعي. هذا النموذج الإلهي منح ذوي الإعاقة مكانا في السردية الثقافية، وإن كان مكانا محفوفا بالتحديات.
تطورت القوانين الرومانية لاحقا لتوفير حماية مالية وقانونية للأشخاص ذوي الإعاقة الذهنية. حيث عين القانون الروماني (خاصة في عهد جستنيان) قيما أو وصيا لإدارة أموال وممتلكات المصابين بأمراض ذهنية تمنعهم من إدارة شؤونهم. هذا الإجراء يوضح تطور العلاقة بين أوروبا القديمة وذوي الإعاقة نحو شكل من أشكال الرعاية المؤسسية. وفق مدونة جوستينيان.
علاوة على ذلك، حاولت القوانين التمييز بين القدرة على الإدراك والقدرة الجسدية في المسائل القانونية. لذلك، لم يكن الشخص ذو الإعاقة مجردا تماما من الحقوق في جميع الفترات، بل كانت هناك محاولات لدمجه قانونيا بما يتناسب مع قدراته. يعكس هذا جانبا براغماتيا في التعامل مع الإعاقة كجزء من الواقع الاجتماعي الذي يحتاج لتنظيم.

بين الموت والحياة كعبيد
من الضروري التمييز بين «وأد الأطفال» (القتل المباشر) وبين «التعريض» الذي كان ممارسة شائعة. حسب تحليلات المؤرخين، كان «التعريض» يعني ترك الطفل في مكان عام أو في العراء، لكنه لا يعني الموت حتما. غالبا ما كان يتم التقاط هؤلاء الأطفال من قبل أشخاص آخرين لتربيتهم كعبيد أو خدم.
لذا، فإن علاقة أوروبا القديمة وذوي الإعاقة كانت معقدة اقتصاديا. حيث قد يتم التخلي عن الطفل بسبب الفقر أو الإعاقة، ليجد حياة أخرى كعبد، وأحيانا يتم تشويههم عمدا لزيادة استدرار العطف عند التسول. هذه الحقيقة المؤلمة تكشف أن البقاء على قيد الحياة كان متاحا، لكنه كان غالبا مشروطا بالاستغلال الاقتصادي القاسي.
في الختام، يمكن القول إن تاريخ أوروبا القديمة وذوي الإعاقة ليس قصة بيضاء ناصعة من الرعاية، ولا قصة سوداء حالكة من الإبادة. إن الأدلة الأثرية والنصية تكشف عن مجتمع متناقض، يجمع بين قسوة التشريعات النظرية ورحمة الممارسات اليومية للآباء.
وباختصار، لم تكن الإعاقة حكما فوريا بالموت، بل كانت تحديا عاشه القدماء بأساليب تراوحت بين الرعاية المعمارية والاستغلال القاسي.


.png)

















































