التوحد في السينما العالمية.. حين يكسر الفن السابع حاجز الصمت

التوحد في السينما العالمية.. حين يكسر الفن السابع حاجز الصمت

المحرر: محمود الغول - مصر
فيلم اسمي خان

لم يكن مرض التوحد حاضرا في الوعي الجماهيري إلا ككلمة غامضة، تتردد أحيانا في نشرات الأخبار أو في تقارير طبية متخصصة، لكن السينما بعينها المبدعة وقلبها المفتوح قررت أن تقترب من هذا العالم المليء بالألوان الخفية، والقصص التي لم تكن قد رويت بعد. ومنذ بدأت السينما تهتم لهذا الأمر وحتى اليوم، أخذت الكاميرا تفتش في العزلة وتحاور الصمت وتبحث عن الإنسان خلف التشخيص الطبي.

ومن الأعمال التي لا تنسى في هذا الصدد، فيلم «رجل المطر» (Rain Man) عام 1988، حيث قدم داستن هوفمان شخصية «رايموند بابيت» الرجل الذي يعيش في عالمه الخاص، لكنه يحفظ أرقام الهواتف ويتذكر تواريخ الأحداث بدقة مذهلة، ولم يكن الفيلم مجرد نجاح تجاري أو فني بل كان نافذة أولى يطل منها الجمهور على طيف التوحد، ولو من زاوية ضيقة.. بينما المشهد الذي يقف فيه توم كروز مذهولا أمام عبقرية شقيقه في الحسابات، لم يكن عن الأرقام بقدر ما كان عن اكتشاف القلب الآخر في القصة.

بن أفليك في فيلم المحاسب
مشهد من فيلم المحاسب لبن أفليك

مرت السنوات وتوالت المحاولات لكن شيئا جديدا بدأ يلوح في الأفق مع دخول الألفية الجديدة حيث جاءت أعمال أكثر جرأة في رسم التفاصيل الإنسانية، وأكثر وعيا بتعدد أشكال التوحد، كان من بينها فيلم «المحاسب » (The Accountant)  عام 2016، الذي قدم بن أفليك في دور محاسب عبقري يعاني من التوحد، لكنه يجد في الأرقام ملاذا وفي النظام ملجأ، الفيلم لم يكتف بإبراز ذكاء الشخصية بل أظهر أيضا صراعها الداخلي ومحاولتها التكيف مع عالم غير مهيأ لاستقبال الاختلاف.

وفي العام نفسه جاءت الكوميديا الرومانسية «المعجزة من السماء » (Miracle from Heaven)  لتلمس جانبا آخر حيث كان التوحد جزءا من خلفية الحكاية وليس محورها، كأن السينما تقول إن هذه الحالة يمكن أن تكون جزءا من سياق الحياة اليومية، لا بالضرورة مركز الحدث.

ثم جاء فيلم «عجب» (Wonder) عام 2017، ليتناول القبول والاختلاف من منظور أوسع، صحيح أن بطله كان يعاني من تشوه خلقي وليس التوحد، لكن روح الفيلم في تقبل الآخر أعادت إلى الأذهان الرسائل التي طالما ارتبطت بتصوير التوحد على الشاشة وهي أن المختلف ليس أقل بل هو ببساطة مختلف.

وفي 2020 قدم فيلم «المعدن السليم » (The Sound of Metal)  لمحة إنسانية عن فقدان الحواس وكيف يغير التجربة البشرية ورغم أن موضوعه الأساسي لم يكن التوحد فإن لغته البصرية في تصوير الانعزال  والبحث عن لغة بديلة للتواصل أعادت النقاش حول كيف يمكن للفن أن يقربنا من تجارب الآخر الداخلية.

وفي عام 2010 كسرت السينما الهندية القوالب المعتادة بفيلم «اسمي خان» (My Name Is Khan)،  الذي قدّم حكاية رضوان خان، الشاب المسلم المصاب بمتلازمة أسبرجر  وهو مصطلح كان يُستخدم سابقا لوصف أحد أشكال التوحد ولم تكن رحلته مجرد بحث عن الحب بل معركة لإثبات إنسانيته في عالم متخم بالأحكام المسبقة بعد أحداث 11 سبتمبر.

فيلم اسمي خان
الفيلم الهندي اسمي خان

وجمع الفيلم بين البعد الإنساني والبعد السياسي، فربط سمات التوحد بقضية أوسع عن الهوية والعدالة وجعل من «خان» شخصية مؤمنة بالخير صامدة في وجه الكراهية، حتى غدا رمزا إنسانيا ملهما يتجاوز حدود الشاشة.

لم تقتصر محاولات تصوير التوحد على هوليوود وحدها، ففي السينما العربية برز فيلم «التوربيني» المصري عام 2007 كأحد أوائل الأعمال التي تقترب من هذا العالم، حين استلهم الفيلم خطوطه الدرامية الرئيسية من «رجل المطر» حيث تدور القصة حول شقيق مصاب بالتوحد يصبح الوريث الوحيد لثروة عائلته، ما يدفع أخاه لاكتشافه بعد سنوات من الفراق.

ورغم أن العمل حظي بالاهتمام لجرأته في طرح موضوع لم يكن مطروقا عربيا، إلا أنه واجه نقدا واسعا لابتعاده عن الدقة في تصوير التوحد، واعتماده على أنماط مبالغ فيها بدل الغوص في تفاصيل التجربة الحقيقية للمصابين وعائلاتهم.

مشهد من فيلم الطبيب الطيب
مشهد من فيلم الطبيب الطيب

لكن ربما كانت الدراما هي التي أخذت الراية في السنوات الأخيرة، مع أعمال مثل «الطبيب الطيب» (The Good Doctor) الذي قدم شخصية جراح شاب مصاب بالتوحد ومتلازمة الموهبة (Savant Syndrome)  و«إتاون كلاس» الكوري، و«عالم أخر » (Atypical ) ، إذ استطاعت الحلقات المتتابعة أن تمنحنا وقتا أطول للتعرف على الشخصية ونموها وتحدياتها، بعيدا عن ضغط ساعتين في قاعة السينما.

اللافت أن التصوير السينمائي للتوحد مر بمراحل من التركيز على القدرات الخارقة في «رجل المطر»، إلى إبراز المهارات الوظيفية في «المحاسب» ثم إلى الحياة اليومية في «Atypical» وأمثاله، وهذه النقلة ليست مجرد تغير في الأسلوب بل هي انعكاس لفهم المجتمع نفسه بأن التوحد ليس قالبا واحدا وأنه ليس بالضرورة مرتبطا بموهبة استثنائية أو عبقرية حسابية، بل قد يكون ببساطة اختلافا في طريقة إدراك العالم.

أما التأثير فقد كان مزدوجا فمن جهة ساهمت هذه الأعمال في زيادة الوعي العام، وفي دفع المشاهدين للبحث والقراءة عن التوحد، ومن جهة أخرى خلقت أحيانا صورة نمطية بأن المصاب بالتوحد يجب أن يكون «عبقريا» أو «موهوبا» حتى يحظى بالتقدير وهو أمر يحاول كثير من النشطاء والمختصين اليوم تصحيحه.

مشهد من فيلم رجل المطر
مشهد من فيلم رجل المطر

وبينما كانت السينما ترسم ملامحها الخاصة لعالم التوحد، تكشف الإحصاءات الطبية صورة أكثر دقة، فبحسب أحدث تقارير منظمة الصحة العالمية يشخص واحد من كل مئة طفل حول العالم باضطراب طيف التوحد، مع ارتفاع النسبة بين الأولاد إلى أربعة أضعاف مقارنة بالفتيات.

وتظهر الأعراض غالبا قبل سن الثالثة وإن كان كثير منها لا يكتشف إلا لاحقا، وتشير الدراسات إلى أن نحو 44% من المصابين يتمتعون بمعدل ذكاء متوسط أو أعلى، ما يؤكد أن التوحد ليس مرضا بقدر ما هو حالة عصبية تؤثر على أسلوب التواصل وفهم العالم، وأن التدخل المبكر والدعم السلوكي يمكن أن يحدثا فارقا حقيقيا في مسار الحياة.

في النهاية يمكن القول إن السينما كانت وما زالت مرآة وأداة مرآة تعكس ما نعرفه أو ما نظن أننا نعرفه عن التوحد، وأداة قادرة على تغيير هذا الوعي وتوسيعه وربما يكون التحدي القادم أمام المخرجين هو أن يقدموا شخصيات مصابة بالتوحد ضمن قصص متنوعة بلا مبالغة ولا تهميش حتى يصبح الوجود المختلف على الشاشة أمرا طبيعيا لا حدثا استثنائيا.

المقالة السابقة
مصاب بالشلل.. ضابط مصري سابق يسجل رقما قياسيا في الغوص تحت الماء
المقالة التالية
إرشادات جديدة تسهل زيارة المباني العامة لذوي الإعاقة في بريطانيا

وسوم

أصحاب الهمم (44) أمثال الحويلة (389) إعلان عمان برلين (392) اتفاقية الإعاقة (530) الإعاقة (79) الاستدامة (758) التحالف الدولي للإعاقة (753) التشريعات الوطنية (553) التعاون العربي (408) التعليم (41) التعليم الدامج (38) التمكين الاقتصادي (55) التنمية الاجتماعية (755) التنمية المستدامة. (51) التوظيف (37) التوظيف الدامج (698) الدمج الاجتماعي (607) الدمج المجتمعي (112) الذكاء الاصطناعي (60) العدالة الاجتماعية (53) العقد العربي الثاني لذوي الإعاقة (399) الكويت (58) المجتمع المدني (750) الولايات المتحدة (47) تكافؤ الفرص (748) تمكين (43) حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (499) حقوق الإنسان (58) حقوق ذوي الإعاقة (70) دليل الكويت للإعاقة 2025 (367) ذوو الإعاقة (95) ذوو الاحتياجات الخاصة. (723) ذوي الإعاقة (286) ذوي الهمم (41) ريادة الأعمال (380) سياسات الدمج (737) شركاء لتوظيفهم (375) قمة الدوحة 2025 (385) كود البناء (369) لغة الإشارة (40) مؤتمر الأمم المتحدة (329) مجتمع شامل (744) مدرب لغة الإشارة (578) مصر (33) منظمة الصحة العالمية (597)