في كل بيتٍ قصة، وفي كل قصة باب ظلّ مغلقًا حتى جاء مَن فتحه بنبض مختلف. ومريم، ابنتي، لم تكن مجرد قصة في كتاب، بل المفتاح الذي فتح لي قلبي… وقلوب الآخرين.
كنتُ الابن المتمرّد في عيون أبي، الخارج عن خط السرب، الباحث عن معنى مختلف للحياة، بينما كان هو رجلًا من معدنٍ صلب، يؤمن بأن الطريق واحد، وأن الانحراف عنه ضياع. أحبني، لكنه خبّأ هذا الحب تحت قلقٍ لا يفارقه. وحتى حين عدت من فرنسا حاملًا شهادة الدكتوراه، لم يزده ذلك إلا إصرارًا على رؤيتي كما كنت في مخيلته: الابن الذي لم يُرضِ الطموح الأبوي.
لكن مريم جاءت… ومعها الانكسار والأمل في آنٍ معًا
حين عرفنا بإعاقتها السمعية، رأيت أبي كما لم أره من قبل: رجلًا تتفتت صلابته، وتغلبه دموعه. لم يكن ذلك حزنًا على حفيدته فحسب، بل وجعًا عليّ أيضًا: “كيف ستحمل هذا العبء يا بني؟”، كانت عيونه تقول.
لكنّي لم أستسلم، ولم أجب بالكلام، بل بالفعل. بدأت رحلة العبور من الصمت إلى الصوت، من العزلة إلى الحياة. ومريم… تلك الصغيرة التي لم تسمع صوتي، سمعت قلبي، وابتسمت. واليوم، تتحدث مريم العربية والإنجليزية، وتخاطب العالم من موقع القوّة لا من موقع الحاجة.
وفي حفل تدشين الطبعة الثالثة من كتاب «حبيبتي ابنتي سميتها مريم»، قالت مريم ما لم أستطع أن أقوله في سنوات: لم تكن تحكي عن إعاقتها، بل عن تحوّلها إلى صوتٍ جماعي، عن كسر الصورة النمطية، لا لتُدهش الجمهور، بل لتُحمّله المسؤولية.
قالتها مريم بوضوح: “أنا لا أطلب امتيازًا، بل أطالب باعتراف بأننا لسنا عبئًا بل ثروة”. جعلت من القاعة منبرًا للتحرر لا للاحتفال، ووجهت رسائلها بثقة مَن قطَع طريقًا طويلًا: للمجتمع، لوسائل الإعلام، لأهلها، لنا نحن.
قالت: “كفى عطفًا، نريد شراكة… لا نريد مَن يسير بنا، بل مَن يفتح لنا الأبواب لنسير بأنفسنا».
ويا لها من مفارقة… لقد كتبتُ عنها، فإذا بها تكتب عنا جميعًا. كنتُ أظن أنني كتبت «قصتها»، فإذا بها تصحح لي: «بل كتبت حقي».
وهناك، وسط التصفيق والتأثر، كانت خولة (نادية)… أم مريم، ورفيقة دربي، الحاضرة في الظل، النبع الذي لا ينضب. كانت هي اليد التي أمسكت بمريم حين ترنحت، وهي التي اختارت ألا تندب الحظ، بل أن تبني واقعًا جديدًا. من البحرين إلى لندن، ثم القاهرة، لم تشتكِ، ولم تتراجع. كانت الصخرة التي أسندتنا جميعًا.
نجاح مريم لم يكن بطولتي، بل بطولة امرأة آمنت بأن ابنتها ليست عالة، بل معجزة
اليوم، لم يعد هذا الكتاب مجرد سيرة عائلية، بل صوت جماعي ينادي بتغيير الخطاب، برفع سقف التمكين، بجعل الشراكة لا الشفقة أساس العلاقة مع ذوي الهمم. إنه شهادة حيّة على أن الصمت يمكن أن يتحول إلى نهرٍ من الحياة، متى ما توافر الحب، والإرادة، والعقل المتنور.
وإلى كل مَن حضر حفل التدشين، وكل مَن قرأ أو سيقرأ هذا الكتاب، نقول: لسنا بحاجة إلى جمهور يصفق، بل إلى مجتمع ينهض، ويضعنا حيث نستحق… في قلب المشهد، لا على هامشه.
ومريم… يا صوتي حين كنتُ صامتًا، يا معجزتي الصغيرة… شكرًا لأنكِ لم تُعيدي إليّ ابنتي فقط، بل أعَدتِ إليّ نفسي، وأبي، ورسالتي.
د. فؤاد شهاب
مؤسس مركز الأمير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود لتنمية السمع والنطق بالبحرين


.png)


















































