يوافق اليوم، الثامن والعشرون من ديسمبر، ذكرى ميلاد معجزة موسيقية وإنسانية لم تتكرر. في الواقع، عندما ولد ميشيل بيتروتشياني عام 1962، لم يتوقع الأطباء له أن يعيش طويلا، ناهيك عن أن يصبح أسطورة.
لقد جاء إلى هذا العالم بجسد هش للغاية، لكن بروح تزن الجبال ثقلا وإصرارا. يعرف العالم ميشيل بلقب عازف البيانو الزجاجي، ليس لأن موسيقاه شفافة فحسب، بل لأن عظامه كانت قابلة للكسر من مجرد لمسة حانية. يسلط هذا التقرير الضوء على حياته التي كانت سباقا مذهلا بين الإبداع والألم.
رحلة عازف البيانو الزجاجي
ولد ميشيل بمرض وراثي نادر وشرس يعرف طبيا بتكون العظم الناقص . ببساطة، هذا المرض يجعل العظام هشة كالزجاج الرقيق، مما يعرض المصاب لكسور مستمرة وتشويه في النمو. نتيجة لذلك، توقف نمو ميشيل عند طول 91 سنتيمترا فقط، وظل طوال حياته بجسد طفل صغير ومشوه. عانى منذ طفولته من مئات الكسور التي التأمت بشكل خاطئ، مما سبب له آلاما مزمنة لا تطاق في كل مفاصل جسده الدقيق. وفق jazzjournal.co.uk.
في وسط هذا العذاب الجسدي، اكتشف ميشيل البيانو في سن مبكرة جدا. حيث وجد في هذه الآلة الضخمة وسيلته الوحيدة للهروب من سجن جسده الصغير. بسبب قصر قامته الشديد، لم يكن يستطيع الوصول إلى دواسات البيانو بقدميه. لكن والده، الذي كان يؤمن بموهبته، صنع له جهازا خاصا لرفع الدواسات لتناسب طول ساقيه القصيرتين. من هنا، بدأت رحلة عازف البيانو الزجاجي في تطويع الآلة لخدمة عبقريته.
لم يكن العزف بالنسبة لميشيل مجرد هواية أو مهنة، بل كان ضرورة بيولوجية للبقاء. استنادا إلى الفيلم الوثائقي الشهير الذي حمل اسمه Michel Petrucciani – 2011 للمخرج مايكل رادفورد، كشف ميشيل عن سر علاقته بالموسيقى. قال جملته الخالدة والموجعة: «أنا لا أعزف لأطرب الناس، بل أعزف لأمنع نفسي من الصراخ من الألم». وتوضح هذه العبارة أن الموسيقى كانت المخدر الوحيد الذي ينسيه وجع عظامه المتكسرة.
مفارقة اليدين والجسد
رغم أن جسده كان ضئيلا وهشا، إلا أن يديه كانتا قصة أخرى تماما. في الواقع، امتلك ميشيل كفين ضخمين وقويين بشكل لا يصدق مقارنة بحجمه. كانت أصابعه تتحرك على المفاتيح بسرعة وقوة جعلت نقاد الجاز في حيرة من أمرهم. وفقا لمقال أرشيفي في صحيفة نيويورك تايمز، كانت قوته في الضرب على المفاتيح تضاهي عازفين بأحجام ضخمة. لقد وهبه الله يدين عملاقتين لتعوضا عجز بقية الجسد عن الحركة.
وكانت اللحظات التي تسبق حفلاته مشهدا دراميا يخلع القلوب. نظرا لعدم قدرته على المشي مسافات طويلة أو صعود الدرج، كان مساعدوه أو زملاؤه في الفرقة يحملونه بين أذرعهم. كان يبدو كطفل صغير بين أيديهم حتى يضعوه على كرسي البيانو. فجأة، وبمجرد أن تلمس أصابعه المفاتيح، يتحول هذا الكائن الصغير إلى مارد عملاق يسيطر على القاعة بأكملها. هذا التحول اللحظي كان يسحر الجمهور ويجبرهم على نسيان إعاقته تماما.
لم يكتف عازف البيانو الزجاجي بالنجاح في موطنه فرنسا، بل قرر غزو معقل الجاز في أمريكا. سافر إلى كاليفورنيا وهو لا يملك سوى موهبته وجسده المكسور. هناك، أقنع أسطورة الساكسفون تشارلز لويد بالعودة للعزف معه بعد سنوات من الاعتزال. نجح ميشيل في أن يصبح أول فنان غير أمريكي يوقع عقدا مع شركة Blue Note العريقة لموسيقى الجاز. أثبت بذلك أن الموهبة الحقيقية لا تعترف بالجغرافيا ولا بالقيود الجسدية.
فلسفة الحياة السريعة
كان ميشيل يدرك جيدا أن وقته في هذه الحياة قد يكون قصيرا بسبب حالته الصحية. لذلك، تبنى فلسفة العيش بسرعة واغتنام كل لحظة. عاش حياة مليئة بالصخب والحب والسفر، رافضا أن يعامل كشخص مريض يستحق الشفقة. تزوج وأحب وأنجب، وكان يتمتع بكاريزما طاغية وشخصية مرحة تجذب الجميع. كان يقول دائما: «لو كنت بصحة جيدة، ربما كنت سأصبح شخصا عاديا ومملا».
أشاد به كبار موسيقيي العالم واعتبروه ظاهرة فنية لن تتكرر. في مقال نشرته صحيفة الجارديان البريطانية عقب وفاته، وصف ميشيل بأنه واحد من أعظم عازفي الجاز في القرن العشرين. أكد النقاد أن أسلوبه كان يجمع بين الرومانسية الفرنسية والقوة الإيقاعية الأمريكية. لم يكن عزفه عزف شخص معاق، بل عزف شخص يمتلك فائضا من الحياة يريد توزيعه على العالم.
ولم ينظر ميشيل لإعاقته كعائق، بل حولها إلى ميزة استراتيجية. بما أن جسده كان يمنعه من ممارسة أي نشاط بدني آخر، فقد صب تركيزه الكامل والمطلق على الموسيقى. كان يقضي ساعات طويلة جدا في التدريب لا يستطيع غيره تحملها. بذلك، أصبحت العظام الزجاجية هي السبب المباشر في صلابة موهبته وتفردها. علمنا ميشيل أن الحرمان في جانب قد يؤدي إلى الطغيان في جانب إبداعي آخر.
الرحيل المبكر لـ عازف البيانو الزجاجي
كما توقع، لم يمهله القدر طويلا ليمتعنا بموسيقاه. توفي ميشيل بيتروتشياني في يناير 1999 عن عمر ناهز 36 عاما فقط. كان السبب عدوى رئوية لم يستطع قفصه الصدري المشوه تحملها. رحل الجسد الزجاجي، لكن التسجيلات والألحان التي تركها ظلت صلبة وخالدة. دفن في مقبرة بير لاشيز بباريس بجوار قبر شوبان، ليرتاح أخيرا من ألم العظام الذي رافقه منذ المهد. وفق موقع appl-lachaise.
في ذكرى ميلاده، يقدم لنا عازف البيانو الزجاجي درسا بليغا في مفهوم الإعاقة. الإعاقة الحقيقية ليست في العظام التي تنكسر، بل في الروح التي تنكسر أمام الصعاب. أثبت ميشيل أن الإنسان يستطيع أن يصنع الجمال حتى وهو يتألم. كلما ضغطت عليه الحياة، كان يخرج لحنا أروع، تماما كما يخرج العطر من الزهرة عند عصرها.
طالع: أشهر6 موسيقيين ومطربين فقدوا البصر وامتلكوا الموهبة.. اثنان في مصر
وتعتبر قصة ميشيل رسالة أمل خاصة لكل مبدع من ذوي الهمم. مفادها أن المجتمع قد يحكم عليك بمظهرك، لكنك تستطيع إخضاعهم بموهبتك. لم يطلب ميشيل تخفيف المعايير الفنية له بسبب مرضه، بل نافس الأصحاء وتفوق عليهم. يجب أن يكون هذا هو المعيار: التميز القائم على الجدارة، لا الشفقة القائمة على العجز.
في الختام، سيظل تاريخ 28 ديسمبر شاهدا على ميلاد أسطورة عازف البيانو الزجاجي. لقد كان ميشيل بيتروتشياني مفارقة حية: عظامه من زجاج، لكن إرادته كانت من فولاذ. علمنا أن الألم حتمي، لكن المعاناة خيار، وهو اختار الموسيقى بدلا من البكاء. رحم الله الفنان الذي منع نفسه من الصراخ، فجعل العالم كله يصفق له.


.png)


















































