حول البروفيسور الكيني مايكل ندورومو فقدانه السمع إلى رسالة علمية وإنسانية، جعلت من كينيا نموذجًا أفريقيًا في التعليم الشامل وحقوق ذوي الإعاقة.
قاد الرجل، الذي يوصف بـ «الأب الروحي للغة الإشارة الكينية»، مسيرة طويلة لتأسيس بنية قانونية ولغوية وثقافية تمكّن الصم من التعلم والمشاركة والمواطنة الكاملة، فلم تكن جهوده مجرد تعليم لغة، بل بناء جسر تواصل أعاد تعريف المساواة في مجتمعه.
تكريم الأمم المتحدة.. اعتراف وردّ جميل
جاء تكريم الأمم المتحدة للبروفيسور ندورومو الشهر الماضي بلقب «شخص العام 2025» تتويجًا لعقود من العمل في خدمة ذوي الإعاقة في كينيا وشرق أفريقيا.
مثّل التكريم اعترافًا رسميًا من المجتمع الدولي بما قدّمه هذا الأكاديمي من تحوّل جذري في واقع التواصل والتعليم لذوي الإعاقة السمعية، وردًّا للجميل لرجلٍ جعل الصمت لغةً وطنيةً وحقوقًا ملموسة.

أكدت المنظمة أن اختيار ندورومو جاء احتفاءً بثمانين عامًا على تأسيس الأمم المتحدة، وتقديرًا لشخصية جسدت في مسيرتها قيم السلام والمساواة والعدالة. وقال ممثلوها في نيروبي إن «قصة ندورومو تختصر معنى العدالة في التنمية: أن يسمع المجتمع من لم يكن يُسمع».
من الصمت إلى القيادة
فقد ندورومو سمعه في سن الثامنة، لكنه لم يفقد القدرة على الحلم، تعلم التواصل مع والده عبر الكتابة في دفاتر صغيرة ملأها بأسئلة وحوارات كانت بوابته الأولى إلى العلم، في وقت لم تكن كينيا تمتلك لغة إشارة موحدة، قرر أن يحوّل فقدانه إلى بحث علمي في التواصل والمعنى.
سافر إلى الولايات المتحدة للدراسة، ثم عاد إلى وطنه حاملاً مشروعًا أكبر من التعليم: تأسيس هوية لغوية للصم في القارة الأفريقية، من هناك، بدأت رحلة بناء «لغة الإشارة الكينية» (KSL) التي أصبحت لاحقًا اللغة الرسمية في البلاد، وانتشرت في دول الجوار مثل جنوب السودان وأوغندا وتنزانيا.
اللغة حقّ إنساني
لم يكتفِ ندورومو بابتكار لغةٍ وطنيةٍ، بل قاد جهودًا تشريعية لإدراجها ضمن القوانين، وساهم في صياغة قانون «الأشخاص ذوي الإعاقة» عام 2003، الذي عدِّل لاحقًا في 2025، وكان وراء المادة الدستورية التي اعترفت رسميًا بـ لغة الإشارة ضمن دستور كينيا لعام 2010.
كما وضع قاعدة قانونية تلزم القنوات التلفزيونية بإضافة مترجم إشارة في نشرات الأخبار، لضمان حق الأشخاص ذوي الإعاقة السمعية في الوصول إلى المعلومات، وبفضل جهوده، أصبحت الترجمة بلغة الإشارة جزءًا من المشهد الإعلامي الكيني، لا استثناءً إنسانيًا.
معلم الأجيال وصانع المؤسسات
درّب ندورومو أكثر من 500 معلم متخصص في تعليم الصم، وأشرف على تأسيس «معهد أفريقيا لدراسات وبحوث الصم» الذي تحوّل إلى مركز إقليمي للتدريب والبحث في مجال التواصل الشامل.
كما شارك في إعداد برامج أكاديمية داخل الجامعات لتأهيل كوادر من ذوي الإعاقة ليصبحوا معلمين وباحثين وقادة مجتمع.
أثّر ندورومو في جيل كامل من الأكاديميين الذين تبنوا فكرته القائلة إن «اللغة ليست أداة للتعبير فقط، بل وسيلة للمواطنة».
ورأى أن الدمج الحقيقي يبدأ من الفصول الدراسية، لا من التشريعات وحدها.
صدى إقليمي ورسالة مستمرة
امتد تأثير ندورومو إلى خارج كينيا، حيث استعانت به مؤسسات تعليمية في شرق أفريقيا، لوضع مناهج للصم وتدريب كوادر محلية، كما شارك في مبادرات مشتركة مع منظمات أممية، لنشر ثقافة التعليم الدامج وتطوير المحتوى الرقمي بلغة الإشارة.
في احتفالية التكريم الأممية الأخيرة، قالت زينب هوا بانغورا، المديرة العامة لمكتب الأمم المتحدة في نيروبي، إن «البروفيسور ندورومو لم يمنح الصم لغة فحسب، بل أعاد لهم حقهم في أن يُسمعوا».
وأضاف الدكتور ستيفن جاكسون، منسق الأمم المتحدة في كينيا: «مايكل ندورومو لم يكن مشروع فرد، بل مشروع مجتمع بأكمله».
إرث يتجاوز التعليم
يمثل ندورومو اليوم رمزًا للتحول من العزلة إلى المشاركة، ومن الإعاقة إلى القيادة، أثبتت تجربته أن العدالة تبدأ حين يتحول الضعف إلى معرفة، والمعرفة إلى عمل، والعمل إلى أثرٍ يغيّر حياة الآخرين.
ومع أن الأمم المتحدة منحته تكريمًا رسميًا الشهر الماضي، فإن أعظم ما حققه الرجل هو تمكين الملايين من الكينيين من أن يجدوا في لغتهم صوتًا للحياة ووسيلةً للمساواة.


.png)


















































