في غرفة ضيقة داخل مستشفى في خان يونس جنوب قطاع غزة، تجلس أم تحتضن طفلتها النحيلة، تراقب أنفاسها المتقطعة وأنبوب الأكسجين الذي صار وسيلتها الوحيدة للبقاء على قيد الحياة.
«ابنتي لانا تموت ببطء أمام عيني، وأنا عاجزة أن أنقذها، كما عجزت عن إنقاذ أخيها الذي مات بنفس المرض».. بهذه الكلمات بدأت الأم الفلسطينية هديل جبر زعرب، حديثها لـ«جسور»، وهي تروي تفاصيل مأساة طفلتها لانا إيهاب جمال زعرب، البالغة من العمر سبع سنوات، وتعيش حالة صحية حرجة في غزة.
وأضافت: «أنا عاجزة ومرعوبة أن أفقدها كما فقدت أخاها الذي كان يعاني من المرض نفسه، بينما الحل الوحيد سفرها الفوري للعلاج خارج القطاع».
بداية المرض ومعاناة الاكتشاف
قالت هديل إن القصة بدأت منذ ولادة لانا، حين لاحظت «أن حجمها صغير وانتفاخ في البطن». اعتقدت في البداية أنه مجرد انتفاخ غازات بسيط، لكنها سرعان ما أدركت أن الأمر مختلف، وبدأت رحلة طويلة ومؤلمة من الفحوصات. وأضافت: «بعد رحلة طويلة، اكتشفنا نوع المرض»
في خضم تلك المعاناة، أنجبت هديل طفلها الثالث صهيب، وكانت الصدمة حين لاحظت عليه الأعراض نفسها التي أصابت شقيقته لانا.. قالت هديل: «بدأ يظهر على طفلي صهيب نفس الأعراض، وأكتشفت وقتها أنه بعاني من نفس المتلازمة».

وأوضحت أن الأطباء شخصوا الحالة بأنها متلازمة «فانكوني بيكل» Fanconi Biecle Syndrome، وهي متلازمة وراثية نادرة تؤدي إلى فشل كلوي واضطراب في الأملاح والسوائل، وهشاشة مدمرة في العظام وضعف في الكبد والجهاز التنفسي.
تتذكر هديل بحزن الأيام الأولى من معاناة طفلتها: «بعمر السنة تعرضت بنتي لغسيل كلى فترة من الوقت»، موضحة أن ذلك كان بسبب إصابتها بتسمم في الدم. وتابعت: «تعافت الحمد لله، وظننا أن الكابوس انتهى، لكننا كنا في بداية الطريق فقط».
وتضيف الأم: «الشي المميز في بنتي لانا إنها طفلة طموحة وعندها إرادة قوية، كل الأطباء كانوا يتحدوني ويحكولي مستحيل بنتك توقف أو تمشي متل باقي الأطفال، لكنها تحدت الكل، وبدأت معها رحلة علاج طبيعي، وصارت الحمد لله تمشي وتلعب متل باقي الأطفال بإرادتها القوية وحبها للحياة».
بدأت الحرب على غزة وانهار كل ما بنته الأسرة
لكن ما إن بدأت الحرب على قطاع غزة، حتى انهار كل ما بنته الأسرة بالأمل.. قالت هديل: «كل شي اتغير أول ما بدأت الحرب على قطاع غزة». وأضافت: «انقطع عنها الدواء اللي بيحتاجه العظام calciless، وهو فعلياً أهم دواء بتعتمد عليه لانا وأخوها ووضعهم الصحي»
انقطاع الدواء كان نقطة التحول المأساوية في حياة الطفلة، توضح هديل: «بدأت تدهور حالتهم الصحية بشكل سريع وملحوظ، حاولت أحافظ عليهم وأعوض الدواء بالأكل، لكن كان صعب كتير يكون في بديل لهذا العلاج».. وتابعت: «حتى مرت علينا أوقات المجاعة ما كنا نلاقي أكل لا صحي ولا حتى غير صحي».

تتحدث هديل بصوت مختنق وهي تمسح دموعها: «قلة الإمكانيات الطبية والحرب كانت السبب الرئيسي إنه أخسر ابني صهيب في لمح البصر».. وأضافت: «اتوفى فجأة وما ظهرت عليه أعراض التعب إلا رشح وزكام كانت كفيلة إنها تنهي حياته».
وتابعت الأم المكلومة: «خسارة صهيب أثرت عليا كأم، وأثرت على أخته لأنها كانت قريبة منه كتير». وأوضحت أن الحزن على فراقه زاد من تدهور صحة لانا: «بعد فراق أخوها مباشرة بدأت تظهر عليها أعراض ضيق التنفس والتهابات الصدر المتكررة وألم العظام».
لانا تفقد الحركة وتعيش على الأكسجين
تقول هديل بحسرة: «انعدام دواء calciless على مدى سنتين الحرب سبب إنها تفقد الحركة تماماً». تصف حالتها اليوم قائلة: «صارت ممددة على ظهرها وأنا أتحكم في حركة جسمها، أقلبها يمين ويسار وأجلسها وأنيمها».. وتضيف: «حتى عظام القفص الصدري أصبحت لينة ما بتقدر تقوم لعملية الشهيق والزفير».
تقول الأم وهي تراقب طفلتها الضعيفة: «اضطرينا نحط لها أكسجين بشكل دائم عشان تعيش.. تخيل من طفلة كانت تلعب زي باقي الأطفال إلى إنسانة عاجزة عن الحركة واللعب وحتى التنفس».. وأشارت إلى أن لانا تعاني من تضخم في الكبد وارتفاع في حموضة الدم، مؤكدة أن «وضعها يزداد سوءاً يوماً بعد يوم».
توضح هديل أن التقرير الطبي الصادر عن مجمع ناصر الطبي في غزة يؤكد أن لانا «تحتاج إلى رعاية طبية متخصصة ودائمة على مدار الساعة»، ويوصي بـ«الإخلاء الفوري والعلاج خارج غزة».
تحويلة جاهزة.. وسفر متعطل
وأكدت: «لانا لها تحويلة من سنة ونص، ولحد الآن ما سافرت». وأضافت: «اتوفى أخوها وهو له تحويلة وبيستنى السفر، نحنا بالمستشفى من شهر وعلى الأكسجين، وما في أي تحسن بوضعها، بالعكس وضعها مع الوقت بيصير للأسوأ».
واختتمت هديل زعرب حديثها بنداء إنساني مؤلم، قالت فيه: «لانا بتنطفي قدام عيني وأنا عاجزة إنه أقدم لها أي شي. حلها بس إنها تسافر وتتعلج لأنه هنا ما في إمكانيات طبية كافية.. حتى أبسط الأشياء زي تحليل حموضة الدم مو متوفر ولا في أي مختبر».

وأضافت بصوت مختنق: «خايفة أخسرها.. خايفة تعيش نفس مصير أخوها لا سمح الله».
وفي ختام حديثها، قالت الأم: « أناشد لإنقاذ ابنتي لانا المصابة بمتلازمة نادرة، بعد وفاة أخيها صهيب بنفس المرض بسبب الحرب وانقطاع الدواء، لانا الآن تفقد حركتها وتعيش على الأكسجين. تحويلتها الطبية جاهزة منذ عام ونصف، لكنها لا تزال عالقة في غزة. لانا تموت أمامي، وسفرها هو الأمل الوحيد»
يذكر أن الزميل الصحفي عمرو ضبش كان أول من نشر عن حالة الطفلة لاناوناشد بسفرها إلى خارج غزة لإنقاذ حياتها.
ما هي متلازمة فانكوني بيكل؟
متلازمة «فانكوني بيكل» (Fanconi Bickel Syndrome) هي اضطراب وراثي نادر جداً يصيب الأطفال، ناتج عن خلل في جين مسؤول عن نقل الجلوكوز داخل خلايا الجسم. يؤدي المرض إلى تراكم الجليكوجين في الكبد والكليتين، مما يسبب تضخماً في الكبد، وفشلاً كلوياً تدريجياً، واضطراباً في الأملاح والسوائل، وهشاشة حادة في العظام، وتأخراً في النمو.
لا يوجد علاج شافٍ تماماً لهذه المتلازمة، لكن العلاج يعتمد على تعويض نقص الأملاح والفيتامينات والحفاظ على توازن الكالسيوم والفوسفور في الجسم، وهو ما يتطلب إشرافاً طبياً دائماً وتوفّر أدوية محددة بشكل منتظم.
في حالات كثيرة، يحتاج المصابون بالمرض إلى رعاية طبية متخصصة خارج مناطق النزاع، وهو ما تصفه الأم هديل بأنه «الأمل الوحيد لبقاء لانا على قيد الحياة».


.png)


















































