هوبكينز ومتلازمة أسبرجر.. طفل منبوذ يكتشف في السبعين أن التوحد سر عبقريته

هوبكينز ومتلازمة أسبرجر.. طفل منبوذ يكتشف في السبعين أن التوحد سر عبقريته

المحرر: محمود الغول - مصر
هوبكينز ومتلازمة أسبرجر

بينما ينشغل العالم في الساعات الأخيرة من يوم 31 ديسمبر بوداع عام واستقبال آخر، نحتفل نحن بميلاد رجل اختارته الأقدار ليكون مسك الختام للإبداع البشري. ففي الواقع، يمثل السير أنتوني هوبكنز حالة فريدة في تاريخ السينما العالمية، ليس فقط لموهبته الجبارة، بل للقصة النفسية والعصبية المعقدة التي تقف خلفها.

ومن ناحية أخرى، لم تكن حياته طريقا مفروشا بالورود والجوائز، إذ كانت صراعا صامتا مع ذاته ومع عالم لم يفهمه لعقود طويلة. وهذه السطور هي بمثابة غوص –  في ذكرى ميلاده الـ 88 – في العلاقة الجدلية بين هوبكينز ومتلازمة أسبرجر، وكيف تحول الاضطراب العصبي من لعنة متوهمة إلى هدية فنية لا تقدر بثمن.

هوبكينز ومتلازمة أسبرجر

لكي نفهم الحاضر، علينا دائما العودة إلى الماضي، وتحديدا إلى مدينة بورت تالبوت في ويلز حيث ولد هوبكنز عام 1937. في بادئ الأمر، لم يكن أنتوني ذلك الطفل اللامع، بل كان يعاني بشدة داخل الفصول الدراسية. بسبب إصابته بعسر القراءة وصعوبات التعلم الشديدة، واجه حكما قاسيا من محيطه التعليمي. نتيجة لذلك، وصم بلقب الطفل الغبي وكان يجلس وحيدا في آخر الصف، عاجزا عن فك رموز الحروف، ومنعزلا عن أقرانه الذين كانوا يسخرون منه.

استنادا إلى مقابلة مطولة أجراها هوبكنز مع صحيفة The Washington Post، ذكر بمرارة: «كنت سيئا في المدرسة.. كنت أشعر أنني غبي، ومنعزل، ومختلف عن الآخرين، مما ولد لدي غضبا مكبوتا». هذا الغضب هو الوقود الذي حركه لاحقا لإثبات ذاته، ليس عبر الكتب المدرسية، بل عبر الفن.

في غضون تلك السنوات المؤلمة، بدأ هوبكنز يطور آليات دفاعية خاصة جدا. بما أن العالم الخارجي كان قاسيا وغير مفهوم، فقد لجأ إلى عالمه الداخلي. هنا بدأت تظهر أولى ملامح طيف التوحد التي لم يشخصها أحد في الأربعينيات. علاوة على ذلك، وجد في الرسم والعزف على البيانو لغة بديلة لا تحتاج إلى كلمات، بل تحتاج إلى إحساس ونمطية يتقنها عقله. من هنا، تحولت العزلة من عقاب مفروض عليه إلى خيار استراتيجي للنجاة وحماية الذات.

التشخيص المتأخر ولحظة التنوير

عاش هوبكنز أكثر من سبعين عاما وهو يعتقد أنه مجرد شخص صعب المراس أو غريب الأطوار. لكن، وفي منعطف درامي يشبه أفلامه، جاءت الحقيقة متأخرة جدا. وفقا لما صرح به السير أنتوني هوبكنز في مقابلة حصرية ومهمة مع صحيفة Daily Mail البريطانية عام 2017، فقد تم تشخيصه في سن متأخرة بمتلازمة أسبرجر ، وهي أحد اضطرابات طيف التوحد عالي الأداء.

أكد هوبكنز في المقابلة ذاتها: «لقد تم تشخيصي بأسبرجر، وأنا بطبعي شخص وحيد.. لا أجيد حضور الحفلات ولا أحب الأحاديث الجانبية الفارغة». بناء على هذا التشخيص، فهم هوبكنز أخيرا لماذا كان يشعر طوال حياته بأنه كائن فضائي هبط على كوكب لا يفهم لغته الاجتماعية.

بدلا من الانهيار أو الشعور بالنقص، تبنى هوبكنز منظورا فلسفيا وعمليا مذهلا تجاه حالته. في الحقيقة، هو لا يرى التوحد كإعاقة، بل يراه هدية بيولوجية تخدم مهنته كممثل. حيث يرى أن عقل مريض الأسبرجر يعمل مثل الماسح الضوئي الدقيق. على سبيل المثال، صرح هوبكنز لصحيفة The Guardian البريطانية في تقرير حول مسيرته، بأن حالته تمنحه القدرة على تفكيك الشخصيات وإعادة بنائها ببرود ودقة جراحية لا يمتلكها الشخص العاطفي العادي.

السر وراء نظرة هانيبال ليكتر

عند الحديث عن هوبكينز ومتلازمة أسبرجر، لا يمكننا تجاهل دوره الأيقوني في فيلم صمت الحملان. هل تساءلت يوما عن سر تلك النظرة الثابتة التي لا ترمش. من الناحية الطبية، يتميز المصابون بأسبرجر بالقدرة على التركيز البصري المكثف والثبات الانفعالي. ومن هنا استغل هوبكنز هذه السمة العصبية بذكاء شديد، ليخلق شخصية هانيبال التي تنظر في روح الضحية دون أن يرف لها جفن. بالتالي، لم يكن هوبكنز يمثل الشر، بل كان يوظف سمات التوحد لخلق هالة من الرعب النفسي الحقيقي.

طالع: التوحد في السينما العالمية.. حين يكسر الفن السابع حاجز الصمت

وكيف لممثل يعاني من عسر القراءة أن يحفظ نصوصا شكسبيرية معقدة؟ الإجابة تكمن في الروتين القهري المصاحب للتوحد. من المعروف أن هوبكنز يقرأ النص الواحد أكثر من 200 أو 250 مرة بصوت عال قبل بدء التصوير. هذا السلوك التكراري، الذي قد يعتبره البعض وسواسا، هو استراتيجية هوبكنز لنقش الكلمات في ذاكرته. بفضل ذلك، يتحول النص إلى جزء من تكوينه البيولوجي، فيخرج الأداء تلقائيا دون أي مجهود ظاهر، وهو ما يذهل المخرجين دائما.

وعلى الرغم من الشهرة الطاغية، يظل هوبكنز وفيا لطبيعته التوحدية المائلة للعزلة. لا تجده في سهرات هوليوود الصاخبة، ولا في دوائر النميمة الفنية. بل على العكس، يفضل قضاء وقته في الرسم أو التلحين أو القيادة منفردا لمسافات طويلة. هذه العزلة الاختيارية تحميه من الإرهاق الحسي والاجتماعي الذي يعاني منه مرضى الأسبرجر. في الوقت نفسه، تمنحه المساحة الذهنية الصافية للتأمل والإبداع بعيدا عن ضوضاء الشهرة الزائفة.

قمة النضج الفني في الثمانين

لم تمنعه الشيخوخة ولا الاضطراب العصبي من تحقيق المستحيل. في عام 2021، وهو في الثالثة والثمانين من عمره، انتزع جائزة الأوسكار عن دوره في فيلم The Father. جسد فيه دور مريض بالخرف ببراعة قطعت نياط قلوب المشاهدين. المثير للإعجاب هو كيف استخدم هوبكنز وعيه بذاته وبذاكرته ليقدم أداء يعكس التفكك الذهني، ليثبت أن العقل المختلف قادر على فهم وتجسيد أعقد المشاعر الإنسانية حتى في خريف العمر. حسب مقال في الجارديان البريطانية.

وتمثل قصة هوبكينز ومتلازمة أسبرجر نموذجا صارخا لما يعرف بالإعاقة الخفية. أنت لا ترى كرسيا متحركا، ولا ترى علامات جسدية، لكنك أمام عقل يعمل بطريقة مغايرة تماما للسائد. الدرس المستفاد هنا هو ضرورة التوقف عن الحكم على الأشخاص بناء على ذكائهم الاجتماعي أو تحصيلهم الدراسي فقط. فالطفل الذي نبذته المدرسة ووصفته بالغباء، هو نفسه الرجل الذي وقف العالم احتراما له، حاملا لقب سير (فارس) من التاج البريطاني.

وفي ذكرى ميلاده، تتردد كلمات هوبكنز كرسالة أمل لكل من يشعر بالاختلاف. دائما ما ينصح الشباب قائلا: تقبلوا ما أنتم عليه.. نحن نموت من كثرة التفكير في آراء الآخرين. خلاصة القول، هو يدعو كل شخص مصاب بالتوحد أو عسر القراءة ألا يحاول إصلاح نفسه ليناسب قوالب المجتمع، بل أن يبحث عن قوته الكامنة في هذا الاختلاف.

هوبكينز ومتلازمة أسبرجر التي فجرت عبقريته

في الختام، ونحن نودع عاما ونستقبل عاما جديدا في ظل ذكرى ميلاد هذا العملاق، ندرك حقيقة واحدة ساطعة. وهي أن قصة هوبكينز ومتلازمة أسبرجر ليست قصة مرض وعلاج، بل هي قصة تصالح وتوظيف. لقد علمنا أنتوني هوبكنز أن العقل البشري لا حدود له، وأن ما نراه نقصا قد يكون هو المكون السري للعبقرية. كل عام والأسطورة هوبكنز بخير، ملهما لكل من يسير وحيدا في طريق الإبداع.

المقالة السابقة
مصر تطلق برنامجًا قوميًا لتمكين ذوي الإعاقة في مجال البرمجة
المقالة التالية
مطالبات بدخول ذوي الإعاقة مجانا إلى حديقة الحيوانات بالدار البيضاء