أبناء القمر في العالم العربي.. سجناء الظلام الذين تقتلهم أشعة الشمس

أبناء القمر في العالم العربي.. سجناء الظلام الذين تقتلهم أشعة الشمس

المحرر: محمود الغول - مصر
أبناء القمر

يعيش بيننا في العالم العربي آلاف الأشخاص الذين يطلق عليهم لقب أبناء القمر، في حياة لا تشبه حياتنا الاعتيادية. في الواقع، هؤلاء الأشخاص مجبرون على الاختباء من ضوء النهار، لأن أشعة الشمس بالنسبة لهم ليست مصدرا للحياة بل هي عدو قاتل.

لذلك، يبدأ يومهم الحقيقي لحظة غروب الشمس، حينما يخرجون من عزلتهم القسرية لممارسة حياتهم.

تعالوا نتعرف على واقع هذه الفئة في منطقتنا العربية التي تسجل أعلى المعدلات العالمية للإصابة. كما نستعرض الأسباب العلمية والاجتماعية، وتحديدا زواج الأقارب، الذي يفاقم من انتشار هذا المرض النادر. أبناء القمر هم ضحايا طفرة جينية حولت النور إلى نار تحرق جلودهم وأحلامهم.

أبناء القمر .. ماذا يقول الطب؟

يعرف مرض أبناء القمر طبيا باسم جفاف الجلد المصطبغ. وفقا لما نشرته منظمة الصحة العالمية، هو اضطراب وراثي نادر جدا يؤثر على قدرة الجسم على إصلاح الأضرار الناجمة عن الأشعة فوق البنفسجية. بمعنى آخر، يفتقر المصابون إلى الإنزيمات اللازمة لمعالجة التلف الذي تسببه الشمس في الحمض النووي (DNA).

نتيجة لذلك، فإن أي تعرض بسيط للشمس، ولو لدقائق معدودة، يؤدي إلى حروق شديدة وتقرحات وتصبغات جلدية فورية. علاوة على ذلك، يرتفع خطر إصابتهم بسرطان الجلد بنسبة تزيد 1000 مرة عن الأشخاص الطبيعيين. لذا، فإن الحماية الكاملة من الضوء هي الوسيلة الوحيدة المتاحة للبقاء على قيد الحياة.

تعتبر المنطقة العربية وشمال أفريقيا البؤرة العالمية الأكثر تضررا بمرض أبناء القمر مقارنة بأوروبا وأمريكا. حسب بيانات المركز العربي للدراسات الجينية، يعود السبب الرئيسي لهذا الانتشار الكثيف إلى ارتفاع معدلات زواج الأقارب في المجتمعات العربية. حيث أن هذا المرض وراثي متنحي، مما يعني أنه يتطلب حمل كلا الوالدين للجين المعيب لظهور الإصابة في الأبناء.

في المقابل، يبلغ معدل الإصابة عالميا حالة واحدة لكل مليون شخص، بينما يقفز هذا الرقم بشكل مرعب في منطقتنا. على سبيل المثال، تظهر الإحصاءات أن المعدلات في المغرب العربي والجزيرة العربية قد تصل إلى حالة لكل 10 آلاف أو 20 ألف نسمة. لذلك، يعد الوعي بالفحص الجيني قبل الزواج هو خط الدفاع الأول لوقف توارث هذا الألم.

حقائق من دول المغرب العربي

تتصدر دول المغرب العربي (المغرب، تونس، الجزائر) القائمة العالمية في نسب الإصابة بمرض أبناء القمر. وفقا لتقارير جمعية «مساعدة أطفال القمر» في تونس، حيث يوجد في تونس وحدها أكثر من 800 حالة مسجلة، وهو رقم ضخم جدا قياسا بعدد السكان. كما تشير دراسات منشورة في مجلات جينية فرنسية إلى أن القبائل المنعزلة وزواج الأقارب في المناطق الريفية يرفعان هذه النسب.

من ناحية أخرى، في المغرب تواجه الجمعيات الأهلية تحديات كبيرة في توفير كريمات الوقاية والملابس الخاصة لهؤلاء الأطفال. حسب تحقيقات صحفية مغربية، يعيش الكثير من المصابين في مناطق نائية وجبلية، مما يصعب وصول الرعاية الطبية إليهم. بسبب ذلك، غالبا ما يتم تشخيص المرض متأخرا بعد ظهور الأورام السرطانية المميتة.

لا يختلف الوضع كثيرا في الجزائر، حيث تعاني شريحة واسعة من الأطفال من هذا المرض الصامت. استنادا إلى بيانات جمعية «السعادة» الجزائرية، يتم تسجيل عشرات الحالات الجديدة سنويا، خاصة في ولايات الجنوب والهضاب العليا. في الواقع، يعاني هؤلاء الأطفال من صعوبة الاندماج المدرسي بسبب عدم تجهيز الفصول بنوافذ عازلة للأشعة فوق البنفسجية.

علاوة على ذلك، يمثل غلاء أسعار المراهم الواقية من الشمس عبئا اقتصاديا ثقيلا على كاهل الأسر الجزائرية الفقيرة. لذلك، تضطر بعض الأسر إلى حبس أبنائهم في غرف مظلمة تماما لحمايتهم. هذا الوضع يخلق أزمات نفسية واجتماعية تضاف إلى المعاناة الجسدية ل أبناء القمر.

طالع: مبادرات سعودية تعزز حقوق ذوي الإعاقة وتحظر العمل تحت الشمس

الأبحاث الجينية والوقاية في السعودية

في المملكة العربية السعودية، يحظى مرض أبناء القمر باهتمام بحثي خاص نظرا لطبيعة المجتمع. حسب دراسات مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث، تم تحديد طفرات جينية محددة مسؤولة عن المرض في بعض العائلات السعودية. حيث تساهم تقنيات فحص الأجنة الآن في مساعدة الأزواج الحاملين للمرض على إنجاب أطفال أصحاء.

مع ذلك، لا يزال التحدي الاجتماعي قائما في بعض المناطق النائية التي يكثر فيها التزاوج الداخلي. كما أن حرارة الشمس القوية في المملكة تجعل حياة المصابين أكثر صعوبة وخطورة من غيرهم. لذا، تعمل الجمعيات الخيرية السعودية على توفير بيئات آمنة ومكيفة لهؤلاء المرضى لتسهيل حياتهم.

ورغم عدم وجود إحصاء دقيق وشامل لعدد أبناء القمر في مصر، إلا أن العيادات الجلدية في الجامعات ترصد بعض الحالات. وفقا لتصريحات أطباء جلدية بومتخصصون، يتم استقبال حالات متأخرة غالبا ما تعاني من تشوهات في الوجه بسبب الأورام. في الواقع، يختلط الأمر على بعض الأسر في الريف المصري ويعتبرون المرض نوعا من الحساسية العادية، مما يؤخر العلاج.

بسبب هذا القصور في الوعي، يفقد العديد من الأطفال حياتهم في سن مبكرة جدا. لذلك، يطالب المهتمون بضرورة إدراج هذا المرض ضمن مبادرات الصحة الرئاسية للكشف المبكر عن الأمراض الوراثية. إن توفير الدعم النفسي والاجتماعي لهذه الفئة في مصر لا يزال في حاجة إلى تطوير كبير.

سوريا والسودان.. مأساة مضاعفة بسبب الحرب

يعيش أبناء القمر في سوريا واقعا مأساويا مضاعفا بسبب ظروف الحرب التي استمرت لسنوات والنزوح وفقدان المأوى. حيث اضطر الكثيرون للعيش في خيام أو مخيمات لا تقي من حرارة الشمس أو أشعتها الحارقة. استنادا لتقارير منظمات إغاثية طبية، فإن انقطاع الكهرباء وصعوبة الحصول على واقيات الشمس فاقم من تدهور حالات العديد من الأطفال.

علاوة على ذلك، فإن الضغط النفسي الناتج عن الصراع يضيف عبئا جديدا على هؤلاء الأطفال المعزولين أصلا. كما أن تدمير البنية التحتية الصحية جعل الوصول إلى جراحات إزالة الأورام أمرا شبه مستحيل في بعض المناطق. لذا، يعتبر المصابون في مناطق النزاع هم الفئة الأشد تضررا وتهميشا في العالم العربي.

يواجه أبناء القمر في السودان ظروفا بيئية قاسية للغاية بسبب طبيعة الشمس الاستوائية الحارقة. وفقا لتقارير صحفية طبية في الخرطوم، فإن معظم الحالات التي تصل للمستشفيات تكون في مراحل متقدمة من سرطان الجلد والعمى. في الواقع، يعيق الفقر الشديد قدرة الأسر على شراء الملابس الواقية أو النظارات الشمسية الطبية الخاصة.

كما أن نقص المراكز المتخصصة في الولايات البعيدة يجعل التشخيص المبكر حلما بعيد المنال. لذلك، تعتمد الكثير من الأسر على الطب الشعبي الذي قد يفاقم الحالة بدلا من علاجها. إن تسليط الضوء على معاناة هؤلاء الأطفال في السودان هو واجب إنساني ملح.

الناشط المغربي أحمد زينون مع فتاة من أبناء القمر
الناشط المغربي أحمد زينون مع فتاة من أبناء القمر

أبناء القمر وملابس ناسا

يمثل الابتكار المتمثل في بدلات الوقاية التي تشبه بدلات رواد فضاء وكالة ناسا طوق نجاة لأبناء القمر. هذه البدلات مزودة بقناع خاص وفلاتر تمنع مرور الأشعة فوق البنفسجية بنسبة 100%. لكن، تكمن المشكلة الكبرى في تكلفتها العالية جدا وعدم توفرها في الأسواق المحلية العربية.

بسبب ذلك، يعتمد معظم المصابين العرب على تبرعات الجمعيات الخيرية للحصول على هذه البدلات. في بعض الدول مثل تونس والمغرب، نجحت جمعيات في تصنيع نماذج محلية أقل تكلفة لتوفير الحماية للأطفال. لذا، يعد دعم هذه الابتكارات المحلية ضرورة قصوى لكسر سجن المنزل.

لا تقتصر معاناة أبناء القمر على الجانب الجسدي والحروق، بل تمتد لتشمل دمارا نفسيا عميقا. حيث يضطر هؤلاء الأطفال للنوم نهارا والاستيقاظ ليلا، مما يعزلهم تماما عن المجتمع والحياة الطبيعية. وفقا لأخصائيي علم النفس، يعاني هؤلاء الأطفال من الاكتئاب والشعور بالدونية بسبب مظهرهم الخارجي ونظرات الناس.

علاوة على ذلك، يحرمون من أبسط حقوق الطفولة مثل اللعب في الحديقة أو الذهاب للمدرسة مع أقرانهم. هذا الإقصاء الاجتماعي يحتاج إلى برامج دمج وتوعية مجتمعية مكثفة لتقبل اختلافهم. إن الكلمة الطيبة والابتسامة قد تكونان العلاج الوحيد لجروحهم النفسية الغائرة.

في الختام، تبقى قضية أبناء القمر في العالم العربي اجتماعية وإنسانية تتطلب تضافر جهود الحكومات والمجتمع المدني والأسر. ومن الضروري العمل على الحد من زواج الأقارب، وتوفير وسائل الحماية مجانا، ودمج هؤلاء الأطفال تعليميا. باختصار، يجب أن نكون نحن قمرهم الذي يضيء ليلهم، وحصنهم الذي يحميهم من نيران الشمس.

المقالة السابقة
«عكار» تسلط الضوء على قصص نجاح ملهمة لذوي الإعاقة في لبنان
المقالة التالية
«مع بعض أقوى».. فعالية سورية تعزز دمج الأطفال من ذوي الشلل الدماغي