علاج الأمراض سواء كانت عضوية أو نفسية لا يقتصر على تناول الأدوية والعقاقير، فهناك أساليب وطرق أخرى تساعد على العلاج، خصوصا عند التعامل مع فئة ذوي الإعاقة، ومن شروط نجاعه العلاج بالرسم والألوان والموسيقى والتأمل أن يكون مقدم العلاج يؤمن بما يفعله ولا يعتبره وسيلة للتربح وكسب المال.
وهنا يأتى ذكر الدكتورة رانيا عصمت محمد، الأستاذ المساعد بكلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية بمصر، التي اختارت منحى مختلف، ولم تعتبر الرسم مجرد هواية أو مادة دراسية، بل لغة قادرة على اختراق حاجز الصمت والعزلة التي قد تحيط بالطفل صاحب الإعاقة، ليصبح جسرًا يربط بين عالمه الداخلي وبين واقعه بكل تحدياته، وبدأت حقبة علاج الأطفال بالفن.
9 أبحاث دولية في مجال رسوم الأطفال والعلاج بالفن
في حوارها مع «جسور» تحدثت الدكتورة رانيا عن أبحاثها التطبيقية التي حوّلت الفن إلى وسيلة علاجية مُلهمة، حيث نتعمق في تفاصيل مشروعها الرائد الذي يتجاوز حدود الأكاديمية ليلامس حياة الأطفال بشكل مباشر، من خلال رسوم تفاعلية تعالج إدمان الألعاب الإلكترونية وتُنمّي الذاكرة، وفيديوهات تُعدّل السلوك دون أن يشعر الطفل بوجود «علاج».
-في البداية، نريد التعرف عليك عن قرب وعلى مساركِ الأكاديمي والمهني الذي يجمع بين الفن والعلاج؟
اسمي رانيا عصمت محمد، وأنا أستاذ مساعد في قسم التصميمات المطبوعة بكلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية، تخصصي الدقيق هو رسوم النشر والكتاب والعلاج بالفن. حصلتُ على رسالة الماجستير في رسوم النشر والدكتوراه في الرسوم التعليمية للأطفال، عملتُ من قبل كعضو منتدب بكلية التربية بجامعة السادات وكلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان.
قدمتُ تسعة أبحاث دولية في مجال رسوم الأطفال والعلاج بالفن وتنمية قدراتهم وتعديل سلوكهم، لقد آمنتُ بأن الفن لا بد أن يخدم المجتمع، وأن قيمته تظهر من خلال قدرته على أن يكون علمًا يُنتفع به.
الرسوم وسيلة للتواصل مع الطفل صاحب الإعاقة واكتشاف خصائصه النفسية
هل ترين الرسم مجرد أداة تعليمية، أم وسيلة لتجسيد العواطف والمشاعر لدى الأطفال ذوي الإعاقة؟
أرى أن الفن يجب أن يكون عِلمًا يُنتفع به. الرسم هو جزء رئيسي في جميع الفنون التشكيلية، وقد أصبح الآن تخصصًا دقيقًا يُسمى «رسوم النشر والكتاب» من خلال أبحاثي، وجدت أن للرسوم وظيفة جديدة وهامة في مجال العلاج بالفن (Art Therapy) للأطفال بشكل عام، وخاصة ذوي الإعاقة، الرسوم هي وسيلة للتواصل مع الطفل، ومن خلالها نكتشف خصائصه النفسية والإدراكية والحسية.
-أبحاثكِ تركز على الجانب العلاجي. هل يمكنكِ مشاركتنا قصة نجاح ملهمة، لطفل أثرت فيه أساليب العلاج بالفن؟
في الحقيقة، لم أكن متأكدة من النتائج في البداية، لكن أول بحث لي عن طفل التوحد أظهر نتائج إيجابية بشكل مفاجئ. أتذكر طفلة كانت تبلغ من العمر 12 عامًا ولم تتفاعل مع أي نشاط، لكنها تفاعلت معي في إحدى ورشي بفضل الله. وفي موقف آخر، كان هناك طفل لا يتحدث، لكنه استطاع التواصل معي من خلال الرسم، الذي أصبح أبجديته للتعبير عن مشاعره.
-هل يمكن أن يكون الفن وسيلة لتعديل سلوك الطفل دون أن يشعر بأنه يخضع لـعلاج؟
بالتأكيد. الرسم وسيلة فعالة لتعديل السلوك بشكل غير مباشر. من خلال الرسوم التي تحكي قصصًا عن سلوكيات سلبية وعلاجها، يمكن للطفل أن يتعلم دون أن يشعر بالعناد. هذا ما قمت به في فيديو تفاعلي أثبت نجاحه، ويمكن عمل سلسلة منه.
3 حلول لمشاكل التعليم الحكومي في مصر
-بالنظر إلى بحثكِ عن «الرسوم التعليمية في الوسيط الرقمي»، كيف يمكن للمدارس الحكومية أن تستفيد من هذه الأبحاث؟
رسالة الدكتوراه الخاصة بي قدمت حلولًا لثلاث مشكلات تواجه التعليم الحكومي: ازدحام الفصول، وتكاليف طباعة الكتب، ورداءة الرسوم التعليمية في الكتب الوزارية. أعدتُ رسم كل الرسوم في كتاب اللغة العربية لمرحلة رياض الأطفال، وقدمتها كوسيلة رقمية تُعرض على شاشات في الفصول. هذا يحل مشكلة الازدحام ويوفر أموال الطباعة ويساعد الأطفال على الفهم. للأسف، مثل آلاف الأبحاث الهامة، لم يُطبّق هذا البحث بعد.
-كيف يمكن للرسوم التوضيحية التفاعلية أن تساعد في علاج الذاكرة قصيرة المدى، وهل هناك تطبيقات عملية للأهالي في المنزل؟
في أحد أبحاثي، قمتُ بتصميم فيديو تفاعلي أطلقت عليه اسم «مامي رونا» . هذا الفيديو يقدم اختبارًا بسيطًا يمكن للأهالي استخدامه في المنزل لمعرفة ما إذا كان لدى الطفل مشكلة في الذاكرة قصيرة المدى أم لا. من خلال استخدام حواس متعددة في عملية التعلم، يمكن علاج هذه المشكلة.
-في بحثكِ حول إدمان الألعاب الإلكترونية، كيف يمكن للفن أن يكون «وسيلة غير مباشرة» لعلاج هذه الظاهرة؟
الأساليب غير المباشرة هي الأفضل لتعديل السلوك. استخدمتُ الرسوم التفاعلية في فيديو ثنائي الأبعاد لإرشاد الأطفال حول أهمية استثمار الوقت وتوزيعه على أنشطة مختلفة. أنصح الأسر، وخاصة الأم، بعمل جدول يومي بمشاركة الطفل، يتضمن وقتًا للرياضة، والأنشطة الفنية، والأعمال المنزلية، ووقتًا محدودًا للألعاب الإلكترونية، مع الاتفاق على نظام للثواب والعقاب.
-تحدثتِ عن محاكاة الأعمال الفنية ذات الطابع الرمزي، كيف يساعد هذا النهج في اكتشاف القدرات الإدراكية للأطفال؟
الطفل يقلد ما يراه بسهولة. من خلال محاكاة الأعمال الفنية، وخاصة الرمزية، يمكننا تتبع طريقة الطفل في الرسم لاكتشاف مهاراته الحسية وصفاته الشخصية. على سبيل المثال، الضغط الشديد على الورقة واستخدام الألوان الساخنة قد يشير إلى قوة الشخصية، بينما الخطوط الرقيقة والألوان الباردة تدل على الهدوء.
-ما هو أكبر تحدٍ واجهكِ خلال عملك على أبحاثك التطبيقية مع الأطفال ذوي الإعاقة؟
أكبر تحدٍ هو كسب ثقة الطفل ومحبته. عندما يشعر الطفل بالمحبة تجاه المتخصص، يتفاعل معه بسهولة ويحقق تطورًا ملحوظًا. التحدي الأصعب هو العمل الفردي وليس بشكل مؤسسي.
-هل يمكن دمج «لغة الإشارة» مع الرسوم لتقديم تجربة تعليمية فريدة؟
في أحد أبحاثي، قمتُ بدمج الأطفال العاديين مع الأطفال الصم والبكم. استخدمتُ رسم الإشارة التي تدل على اللون، ودمجها مع الرسوم التي يتم تلوينها. هذا ساعد الطفل الأصم على فهم اللون وخلطه بسهولة.
-هل يمكن استخدام أبحاثكِ في «تنمية الإدراك البصري» و«الصورة الذهنية» مع كبار السن وضعاف الذاكرة؟
نعم. كبار السن يشاركون الأطفال في العديد من الصفات، ويعانون من مشاكل في الذاكرة. يمكن استخدام نفس اختبارات الذاكرة وطرق العلاج التي تعتمد على تعدد الحواس معهم.
-إذا أتيحت لكِ الفرصة لإطلاق مشروع مجتمعي واحد، فماذا سيكون ولماذا؟
حلمي الذي ما زلت أسعى لتحقيقه هو إنشاء مركز متخصص لاكتشاف مهارات الأطفال وعلاج مشكلاتهم الإدراكية من خلال الفن، خاصة الرسوم. هذا المركز سيقوم على أبحاث علمية، وسيمنح الطفل شهادة معترف بها، لدمجه في المجتمع بشكل طبيعي. هؤلاء الأطفال لهم الحق في التعليم والتدريب.
-في بحثكِ عن «لغة جديدة لتبسيط أبجدية القراءة وعلاج الديسلكسيا»، كيف يمكن للرسوم التوضيحية أن تساعد في بناء روابط ذهنية جديدة؟
أطفال الديسلكسيا (عُسر القراءة) لديهم مشكلة في الذاكرة قصيرة المدى، وليس في الذكاء. الرسم يلعب دورًا هامًا في تثبيت المعلومة بالذاكرة. يمكننا تحويل الحروف الأبجدية إلى رسوم يسهل تذكرها من الكائنات الحية، مما يسهل على الطفل ربط الحروف لتكوين الكلمات والتغلب على صعوبات القراءة.
-أحد أبحاثكِ يتناول «المعالجات الجرافيكية لرسوم النشر من خلال القصة المعدة للطفل ونظيره من فاقد البصر. كيف يتم تحويل الرسوم البصرية إلى تجربة حسية يستفيد منها الطفل فاقد البصر؟
من خلال الرسوم الحسية، يمكن للطفل فاقد البصر أن يرى الرسوم عبر حاسة اللمس. قمتُ بتحويل رسوم القصة المطبوعة إلى رسوم بارزة يمكن للطفل لمسها، مما يساعده على تكوين صورة ذهنية لأشكال يصعب عليه لمسها في الواقع، مثل الحيوانات.
-هل تعتقدين أن العلاج بالفن يمكن أن يكون بديلاً للعلاجات التقليدية أم أنه أداة مساعدة؟ وما هي شروط نجاحه؟
العلاج بالفن علاج تكميلي، لا يُغني عن العلاج الدوائي. ولا تنجح الأدوية وحدها في الشفاء. لنجاح هذا النوع من العلاج، يجب أن تتضافر جهود الأسرة، والطبيب، ومتخصص العلاج بالفن معًا.
-تحدثتِ عن سوء الرسوم التعليمية في الكتاب الحكومي، ما هي المعايير التي يجب اتباعها لتصميم رسوم فعالة وجذابة؟
للأسف، يقوم بتصميم الرسوم في الكتب الحكومية غير متخصصين. يجب أن تُتبع معايير الرسوم العلمية، بحيث تكون واضحة من حيث الرسم والألوان، وتُراعى فيها دقة التفاصيل، وتنتمي إلى المدرسة الواقعية.
-كيف يتم إعداد الطلاب في كلية الفنون الجميلة ليكونوا متخصصين في مجال رسوم النشر والكتاب والعلاج بالفن؟
بفضل الله، بدأ هذا العلم المتخصص يدخل في الخطط البحثية للدراسات العليا، ويتم إنتاج رسائل ماجستير ودكتوراه في هذا المجال. أما بالنسبة للمواد الدراسية، فأنا أحاول بشكل فردي إدخالها في مادة «التدريب الصيفي» للطلبة.
-لو كان عليكِ إيصال فكرة العلاج بالفن للآباء والمعلمين، فما هي النقاط الرئيسية التي ستركزين عليها؟
سأوضح لهم أن العلاج بالفن جزء أساسي في تربية وتعليم الأطفال. سأركز على ثلاث نقاط:
تفسير الأعراض النفسية: الفن يساعد على فهم المشكلات النفسية التي تظهر على الأطفال.
تنمية المهارات: هو وسيلة لتنمية مهارات الطفل وإيجاد قناة للتواصل معه.
تعديل السلوك: يساعد على تعديل السلوكيات غير المرغوبة.
-كيف يؤثر عملكِ مع الأطفال ذوي الإعاقة على إلهامكِ الفني كفنانة؟
العمل مع الأطفال بشكل عام ملهم لأي فنان. من خلال الورش الفنية، أكتشف المشكلات البحثية التي يمكنني العمل عليها وإيجاد حلول لها.
-ما هو التحدي الأكبر الذي يواجهكِ عند محاولة تحقيق التوازن بين الجانب الأكاديمي والجانب الإبداعي؟
أحاول دائمًا تحقيق التوازن من خلال منهج البحث التطبيقي. أقوم بإنشاء أعمال فنية، ثم أطبق عليها دراسات ميدانية، واستخلص النتائج، وأصيغها في كتاب أو قصة تُقدم للأطفال.
-هل يمكنكِ أن تشاركينا تفصيلة معينة من إحدى التجارب البحثية التي أثرت فيكِ شخصيًا؟
في إحدى التجارب، استخدمتُ مجسمات خشبية للفاكهة والخضروات، مقطوعة من الداخل والخارج، لتدريب الأطفال على معرفة أشكالها. بعد أن رأى الأطفال المجسمات، تمكنوا بسهولة من تجميعها مرة أخرى. هذه التجربة أثبتت لي فعالية الرسوم المجسمة في ترسيخ المعلومات.
-لو أتيحت لكِ الفرصة للتعاون مع متخصصين في علم النفس أو علم الأعصاب، كيف تتخيلين هذا التعاون؟
أرحب بالتعاون مع تخصصات أخرى، خاصة الطب النفسي. أتخيل أننا من خلال رسوم المريض يمكننا اكتشاف أسباب مرضه، مما يسهل العلاج. أما مع مجال التعليم، يمكن تطبيق أبحاثي في مناهج دراسية لمساعدة الأطفال الذين يواجهون صعوبات في التعلم.
-أين ترين مجال «العلاج بالفن» في مصر خلال السنوات القادمة؟ وما هو دوركِ الذي تأملين أن تلعبيه؟
أصبح العلاج بالفن من العلوم الهامة في مصر، ووجد دعمًا كبيرًا لم يكن موجودًا في السابق. آمل أن يكون هناك اهتمام أكبر من الدولة، وإنشاء مدارس خاصة للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، تتيح لهم التعلم من خلال الفنون وتُدمجهم في المجتمع. آمل أن أساهم في وضع خطط تعليمية ومناهج متطورة للمساعدة في ذلك.
-هل تعتقدين أن دمج التكنولوجيا المتقدمة، مثل الواقع الافتراضي أو الذكاء الاصطناعي، يمكن أن يفتح آفاقاً جديدة للعلاج بالفن؟
أرى أن الذكاء الاصطناعي سيظل أداة مساعدة للإنسان، ولن يكون بديلاً عنه. استخدام التكنولوجيا مهم جدًا في مجال البحث العلمي للعلاج بالفن، وسيفتح آفاقًا جديدة بلا شك.
أود أن أضيف أن للإعلام دورًا كبيرًا في تعريف الناس بالعلاج بالفن، وجعله جزءًا أساسيًا من حياة الأطفال مثل الرياضة والتعليم. فإلقاء الضوء عليه من قبل الإعلام والصحافة أهم بكثير من ترويجه من قبل الباحث نفسه.