إيناس أبو عجينة.. طبيبة من غزة تواجه الموت بكاميرا الموبايل

إيناس أبو عجينة.. طبيبة من غزة تواجه الموت بكاميرا الموبايل

المحرر: محمود الغول - غزة

في واحدة من أكثر بقاع العالم قسوة، حيث يتقاطع الحصار مع الحرب والنزوح والمرض، يظل هناك دوما هامش صغير للأمل، وفي قطاع غزة، ذلك الشريط الضيق المحاصر منذ سنوات، تطل طبيبة شابة بوجه باسم رغم كل المآسي، حاملة هاتفا متواضعا، لتقدم ما هو أثمن من الطعام والدواء.. المعرفة الطبية.

إنها الطبيبة إيناس فضل الله أبو عجينة، التي تحولت قصتها إلى نموذج فريد في الجمع بين المهنة الإنسانية والرسالة الرقمية، بين العمل الطبي الميداني والإبداع التوعوي عبر منصات التواصل الاجتماعي.

تبدأ إيناس حديثها لـ «جسور» بذاكرة طفولية لا تنسى، «من وأنا طفلة كنت بقرأ في كتب عنا في المنزل عن الحشرات وأشكالها والأمراض اللي بتسببها والطفيليات المصاحبة إلها. شاركت في المرحلة الابتدائية في مسابقات رسم بتنظيم من مؤسسة CHF مع الإدارة العامة للنفايات عن كيفية المحافظة على نظافة البيئة وعرض أفكارنا حول كيف نخلي مدينتنا أجمل».

هكذا تشكل الوعي المبكر لديها لم تكن مجرد طفلة تلعب، بل قارئة نهمة لكتب الصحة والبيئة، تتأمل تأثير الأمراض والطفيليات، وتحلم بمدينة أنظف وصحة عامة أفضل.

إيناس أبو عجيلة طبيبية وملهمة

كبرت إيناس، ومع المرحلة الإعدادية والثانوية ازداد شغفها: «كنت أهتم جدا بالصحة العامة وصحة الأم والطفل، وأقرأ كثيرا عن الأمراض المنتشرة. كنت أتابع نشرات منظمة الصحة العالمية في التلفاز، وأتابع أخبار الأوبئة والكوارث الطبيعية والحروب والمجاعات».

ثلاث محاولات للوصول إلى «الطب»

لم يكن الطريق سهلا حيث نجحت إيناس في الثانوية العامة عام 2014 بمعدل 89.6%، فالتحقت بكلية العلوم الصحية لدراسة التحاليل الطبية، وتفوقت في فصلها الأول وحصلت على منحة للفصل الثاني.

لكن قلبها لم يطمئن.. تقول: «شعرت أن شغفي سينتهي هنا، وأنني أقدر أقدم أكثر. قررت إعادة الثانوية في 2015».

في المحاولة الثانية حصلت على معدل 92.7%، فالتحقت بكلية الصيدلة، لكنها شعرت من جديد أنها لم تجد ذاتها، كانت تبحث عن شيء أكبر، فقررت إعادة الثانوية للمرة الثالثة عام 2016، وهناك فقط، تحقق الحلم والتحقت بكلية الطب، تصف اللحظة بقولها: «كان يوم دخولي كلية الطب كأني ولدت من جديد»،حسب قولها لـ«جسور».

زمن كورونا.. البداية الحقيقية

مع جائحة كورونا تحرك بداخلها ذلك الحس المبكر بالمسؤولية: «كنت أود أن أكون سببا في معرفة الناس بالمرض، وألا يستهينوا بالإرشادات اللازمة للوقاية. كنت أقوم بدور المثقف الصحي فقط في محيطي».

كانت التجربة الأولى التي تدرك فيها أن المعلومة البسيطة يمكن أن تكون خط الدفاع الأول في مواجهة وباء عالمي.

من التطوع الطبي إلى العالم الرقمي

اندلعت الحرب الأخيرة، ووجدت إيناس نفسها في قلب المأساة، ونزحت مع أسرتها إحدى عشرة مرة، آخرها النزوح الحالي.

تقول: «عملت كطبيب متطوع في قسم الأطفال في مستشفيات الشمال، وأثناء النزوح عملت في نقطتين طبيتين في الجنوب».

في تلك الأثناء، لاحظت شيئا لافتا وهو نقص مواد التنظيف، الازدحام على النقاط الطبية، ولجوء الناس إلى شراء أي دواء من الصيدليات دون استشارة، عندها أدركت أن دورها لا ينبغي أن يتوقف عند كتابة وصفة طبية، بل عليها أن تشرح للمرضى استخدام الدواء وتداخلاته، ومع ازدحام النقاط الطبية، فكرت بحل أبسط ألا وهو نشر المعلومات الطبية على وسائل التواصل الاجتماعي ليستفيد أكبر عدد ممكن مجانا.

منصتة في قلب العاصفة

أنشأت إيناس حسابا على «تيك توك» وصفحة على «فيسبوك» باسمها، بالإضافة إلى صفحة أطلقت عليها اسم «نبض الأمل – Hope Beat». أرادت أن يبقى الأمل نابضا في قلوب الناس مهما اشتدت الظروف.

الفيديوهات التي تنتجها ليست احترافية من حيث الشكل، فهي غالبا تصور بكاميرا هاتف متواضع، وأحيانا من داخل الخيمة أو على قمة تلة أو أثناء الجلوس على مقعد في الطريق.

تقول بصدق لـ«جسور»: «قلت لنفسي لا يهم أن يكون شكلنا طالع (وااو)، المهم المعلومة تصل للناس».

تحديات معقدة: الكهرباء، الإنترنت، والكتب تحت الركام

تواجه إيناس صعوبات هائلة لإنتاج فيديو قصير من  انقطاع التيار الكهربائي منذ أكثر من عامين، إلى ضعف الإنترنت وصعوبة الوصول إليه،وحتى فقدان مكتبتها الطبية بالكامل تحت أنقاض بيتها في النزوح الأخير.

تحكي بأسى: «أكثر شيء بحزنني أن كتبي الطبية تركتها في البيت وأعتقد الآن أنها تحت الركام. قبل أي فيديو جديد أستذكر الموضوع قدر المستطاع حتى تكون المعلومة صحيحة وخالية من الأخطاء».

دمج بين الطب والعلاج العشبي

تحاول إيناس أن توازن بين الدقة العلمية وواقع الناس الصعب: «أدمج بين المعلومة الطبية والتغذية العلاجية، وأدخل بعض العلاجات العشبية ليس كبديل بل كمساعد».

أهم المواضيع التي تقدمها التعامل مع الأمراض المزمنة كالسكري وضغط الدم، وطب الأطفال، خاصة الأمراض التي تظهر في شكل نوبات مثل الأزمة والصرع، والأمراض الوبائية التي انتشرت مع دمار البنية التحتية، والأمراض الجلدية المرتبطة بنقص مقومات النظافة.

قصص النجاح.. ومواقف لا تنسى

تصلها رسائل كثيرة تؤكد أثر فيديوهاتها.. فتقول: «بصراحة ردود فعل الناس مفرحة جدا، كثير منهم ممتنون للمعلومة الطبية، وكثيرون بدأوا يفهمون كيف يحدث المرض وبالتالي يقتنعون بالعلاج».

وتضيف الطبيبة الغزاوية الشابة: «قابلت مجموعة سيدات في إحدى المرات، فتعرفت إحداهن علي قائلة: (هاي الدكتورة اللي بتعمل فيديوهات على الفيس). أخبرتني أنها كانت تهمل علاج السكري حتى وصل معدل السكر التراكمي لديها 9، لكن بعد متابعة الفيديوهات التزمت من جديد بالعلاج».

«من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا»

ترفع إيناس شعارا تعتبره مبدأ حياتها: Save Soul, Save Humanity، المستمد من قوله تعالى: «ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا»، وتشرح: «ما تستصغر أي شيء بتقدمه، فكل دقيقة قد تكون فارقة. هناك مقولة في الطوارئ: Time Means Muscle. إذا كانت الدقيقة تصنع الفرق بين حياة وموت، فكيف بأي معروف أو مساعدة صغيرة؟».

بين الأمل والعجز.. مأساة يومية

لا تخفي الطبيبة الشابة مشاعر العجز أحيانا: «أكون حزينة جدا لما أنصح مرضى السكر بالالتزام بالأنسولين وهم ما عندهم ثلاجة لحفظه أو لما يسألوني عن دواء مقطوع من السوق وأنا عارفة أنه مش متوفر أصلا».

إيناس أبو عجيلة طبيبة تواجه الحرب بكاميرا الموبايل

 

تزداد معاناتها مع الأطفال والحوامل: «أقول للأمهات لازم نظام غذائي لتجنب سوء التغذية، فأرى القلق في عيونهن، لأنهن يعرفن أن ما أقوله غير متاح. كل ما يدخل من مساعدات مجرد معلبات».

خيمة صغيرة وحلم كبير

مؤخرا اشترت إيناس خيمة صغيرة لتكون نقطة طبية تطوعية تخدم خمسة مخيمات متجاورة، تضم نحو 1500 عائلة، لكن المشروع متعثر: «لم أجد من يساعدني لتوفير المستلزمات كل ما أملكه لأقدمه للناس هو العلم والجهد».

رغم كل الظروف، تتطلع إيناس للتطوير: «بتعلم من مقدمي المحتوى المصريين والخليجيين كيف أحسن الفيديوهات، كيف أوصل لجمهور أكبر، وأطور في المونتاج والترجمة».

العلم يبني بيوتا لا عماد لها

تختتم رسالتها للشباب بعبارات مقتبسة من تراث عربي أصيل: «تعلم، تعلم، تعلم.. العلم يبني بيوتا لا عماد لها، والجهل يهدم بيت العز والكرم. جرب شي جديد وما تكون نمطي. العلم نور، والعلم مفتاح لكل باب مقفول».

في زمن تختزل فيه غزة إلى مشاهد الدم والركام، تقف الطبيبة الشابة إيناس لتقول إن الحياة لا تزال ممكنة، وإن المعرفة الطبية قد تكون في بعض الأحيان أثمن من الغذاء. بوجهها المشرق وكلماتها البسيطة، تصنع نافذة أمل في عالم يضيق يوما بعد يوم.

قصة إيناس ليست مجرد تجربة شخصية، بل شهادة حية على أن العلم يمكن أن يزهر حتى في أحلك الظروف، وأن رسالة إنسانية صادقة قد تبدأ من خيمة صغيرة لتصل إلى أبعد مدى.

المقالة السابقة
أستاذ بكلية فنون جميلة: بدأت حقبة علاج الأطفال ذوي الإعاقة بالرسم «حوار»
المقالة التالية
سلطان بن سلمان يزور مركز الملك سلمان للإغاثة ويثمن جهوده تجاه ذوي الإعاقة 

وسوم

أصحاب الهمم (44) أمثال الحويلة (389) إعلان عمان برلين (392) اتفاقية الإعاقة (533) الإعاقة (85) الاستدامة (801) التحالف الدولي للإعاقة (777) التشريعات الوطنية (596) التعاون العربي (410) التعليم (45) التعليم الدامج (39) التمكين الاقتصادي (58) التنمية الاجتماعية (797) التنمية المستدامة. (53) التوظيف (40) التوظيف الدامج (698) الدمج الاجتماعي (609) الدمج المجتمعي (114) الذكاء الاصطناعي (61) العدالة الاجتماعية (53) العقد العربي الثاني لذوي الإعاقة (400) الكويت (59) المجتمع المدني (790) الولايات المتحدة (47) تكافؤ الفرص (790) تمكين (51) حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (500) حقوق الإنسان (58) حقوق ذوي الإعاقة (73) دليل الكويت للإعاقة 2025 (367) ذوو الإعاقة (102) ذوو الاحتياجات الخاصة. (764) ذوي الإعاقة (331) ذوي الهمم (43) ريادة الأعمال (380) سياسات الدمج (777) شركاء لتوظيفهم (375) قمة الدوحة 2025 (425) كود البناء (369) لغة الإشارة (40) مؤتمر الأمم المتحدة (329) مجتمع شامل (784) مدرب لغة الإشارة (578) مصر (35) منظمة الصحة العالمية (598)