الأذن الصامتة.. رحلة ريموند أنترُبَس مع الصمم والهوية

لم يكن رايموند أنترُبَس أول شاعر في عائلته، فمن جهة والدته يتصل نسبه بالشاعر توماس جراي صاحب قصيدة”مرثية مكتوبة في فناء كنيسة ريفية ” المفعمة بأصوات الطبيعة.

غير أن عالم الأصوات بالنسبة لأنترُبَس ليس مكِتملًا. فحين يخلع سماعاته تتبخر بعض النغمات من حياته كما لو أنها لم توجد أصلًا.

يصف ذلك ب”الصوت المفقود” على أطراف السلم السمعي: عند طرف يختفي صفير غلاية أو رنين جرس، وعند الطرف الآخر تتشوه الكلمات نفسها فتنزلق من معنى إلى آخر فمثلا تتحولsuspicious  مريب إلى spacious فسيح. فجوة صغيرة في الموجة الصوتية، لكنها هاوية واسعة في المعنى والتجربة الإنسانية.

وإذا بدا هذا التصور عن استمرارية الصوت بسيطًا، فإن أنترُبَس يوضح في هذا العمل المكثف والمؤثر أن شرحه ليس بالأمر السهل لمن يعتقد أن الصمم يعني العجز الكامل عن السمع، فكثيرون يتخيلون أن الصم يعيشون في صمت تام مقطوعين عن التواصل مع العالم السامع إلا عبر قراءة الشفاه أو لغة الإشارة أو الأجهزة المساعدة.

بالنسبة لأنترُبَس فإن هذا الشكل من، السَمعوية audism أو التمييز ضد الصم، قد يكون مرهقًا بقدر الإرهاق الذي تسببه المحادثات والمشاهد الصوتية التي يضطر فيها إلى ابتكار استراتيجيات لتعويض ما لا تلتقطه أذناه.

حين زار ريموند أنترُبَس قرية تحمل نفس أسمه في تشيشاير، المشتق من الفرنسية النورمانية entre-bois  ، رأي مزارعًا افترض من لون بشرة أنتربس أنه ينحدر من عائلة بارونية كانت تملك عبيدًا. لكن الحقيقة أن اسم “أنترُبَس” جاءه من جهة والدته الإنجليزية لا من والده المولود في جامايكا.

هذه اللحظة، فجّرت داخله أفكارًا عن الطبقات العاملة في إنجلترا والعبودية في المزارع لتضاف إلى سلسلة من المواقف التي وُجهت فيها هويته، بريطاني أسود مختلط وذو إعاقة غير مرئية، إلى الإسقاط وسوء الفهم.

فى الكتاب، يمزج أنترُبَس بين لحظات من حياته الخاصة وبين حكايات عن معلمين رواد للصم وعن فنّانين مثل الشاعر ديفيد رايت الذي فقد سمعه طفلًا، والذي يعتقد أنترُبَس أنه تشبع من قلق والديه فعاش حياته مثقلًا بخزيٍ يسهُل على أنترُبَس أن يتفهمه.

وكطفل، كثيرًا ما كان أنترُبَس يتمنى لو يتخلص من صممه، مبتعدًا عن الثقافة الصمّاء capital-D Deaf culture فيخلع سماعاته وينغمس في أنشطة مثل السباحة التنافسية، حيث يجد أقرانه السامعون أنفسهم أيضًا في عالم مشوش الأصوات.

داخل مجتمع الصم اكتشف أنه قد يُنظر إليه على أنه “ليس أصم بما يكفي” بينما في عالم السامعين كان يمكنه أن يمرّ تقريبًا كواحد منهم ما دام لا يستخدم لغة الإشارة، تلك التي كان يسمع زملاءه يسخرون منها بينما يسير رفاقه من المدرسة الخاصة بالصم إلى الفصل.

وفي دروس إدارة الغضب كان يصغي إلى والدته وهي تحكي قصصًا عن نوبات اندفاعه الغاضب، لكنه كان يأخذ حديثها بدرجة أقل على أنه حديث منفتح، وبدرجة أكبر كهجوم أو اتهام”الغضب الذي كان يشتعل في دماغي المراهق بدا خاطئًا، وكان مصدرًا لخزيي الشخصي” وبينما حاولت والدته أن تساعده، اشترى له والده، سيمور، كيس ملاكمة فضربه أنترُبَس بعنف حتى التوى معصمه.

وبطبيعة الحال، يتحفظ أنترُبَس على السرديات التى تعد بالخلاص، لأنه حتى دخوله إلى عالم الشعر جاء معقدًا وصعبًا، ففي أمسيات الشعر الشفهي كان عليه أن يختار مكانه بعناية حتى لا يطغى على سمعه صرير السُلّم أو التصفيق، كما تعرّض مرة لإحراج بالغ حين اختاره شاعر من الجمهور لأنه عبّر عن إعجابه بصوت عالٍ أكثر مما ينبغي. ومع ذلك، بدأ يكتشف أن الشعر “احتضن وكرّم الكثير من أثقالي وحقائقي”، وربما الأهم أنه منحه وسيلة لدمج تجاربه وهوياته المختلفة في نسيج واحد.