السعودية- جسور – شيماء اليوسف
في لحظة طال انتظارها، خرجت الفنانة التشكيلية السعودية إلهام أبو طالب، لتقف أخيرًا أمام جمهورها في جدة، متحدّية إعاقتها السمعية، ومعلنة عن أول معرض شخصي لها، تحت مظلة جمعية الثقافة والفنون.
بين ألوانها ورسوماتها الناطقة، وقفت إلهام شامخة، مبتسمة، لتروى قصة امرأة قاومت الإعاقة بالفن، وقطعت طريقًا شاقًا منذ الطفولة،.
إشادات وتصفيق واعجاب بموهبتها، التى ظهرت في أعمالها، دفعت منظمي معرضها ليمتد حتى 26 يونيو، بعد أن تجاوز الحضور من الجمهور والنقاد كل التوقعات.
وفي هذا الحوار مه “جسور” تكشف إلهام عن ملامح رحلتها من الطفولة إلى الفن.
- وُصفتِ بأنكِ “فنانة معجزة”.. كيف تصفين نفسك بعيدًا عن الأوصاف الإعلامية؟
أنا امرأة صنعت نفسها بنفسها، شقَت طريقها بالإيمان والعزيمة. لم أُولد في دائرة الضوء، لكنني كنت أؤمن أن نوري الداخلي كافٍ ليهتدي إليه العالم. فخورة بكل خطوة مشيتها، لأنني لم أنتظر أحدًا، كنت دائمًا أعتمد على نفسي بعد توكلي على الله.
- كيف أثرت الإعاقة السمعية على شخصيتك؟ وهل شكلت دافعًا لكِ في عالم الفن أم كانت عائقًا في البداية؟
الإعاقة السمعية لم تكن عائقًا بقدر ما كانت بوابة لفهم أعمق للحياة. صحيح أنها أثرت على تواصلي في طفولتي، سواء في المدرسة أو الحياة اليومية، لكنها لم تسرق ثقتي بنفسي. عائلتي احتضنتني بدفئها، ومجتمعي فتح لي الأبواب حين فتحت قلبي له. الفن كان ملجأي الأول؛ في حصص الرسم كنت أتكلم بالألوان حين صمت العالم من حولي.
- هل تتذكرين اللحظة التي قررتِ فيها أن الفن سيكون صوتكِ البديل للعالم؟
نعم، كانت بدايتي مع الفن لحظة صامتة لكن صاخبة في داخلي. كنت طفلة أزور مرسم جارنا الفنان خليل حسن خليل في جازان، أقف أمام لوحاته وكأنها تحكي لي شيئًا لا يسمعه أحد سواي. هناك عرفت أنني أريد أن أتكلم بطريقتي، أرسم شعوري وألون أفكاري. أول لوحة سكنت قلبي كانت تصور “ليلة الحنّة” – كانت مليئة بالحياة، وأيقظت فيّ وعدًا: أن يكون الفن لغتي الأبدية.
- كيف ساعدكِ والدكِ في تجاوز صعوبات السمع والنطق؟ وما الذي تعلّمته منه وبقي معكِ حتى اليوم؟
كان والدي – رحمه الله – هو أول من منحني أدوات النطق، ليس فقط بالحروف، بل بالحياة. كان يمسك بيدي الصغيرة ويضعها على حنجرته لأشعر بذبذبات الحروف، ويعيد تلاوة الآيات حتى أتقن مخارجها من القرآن. لم يكن يمر على خطئي مرور الكرام، بل كان يصبر ويصر حتى أنطق الحرف كما يجب. من بين كل ما منحني، ظل الصبر وحب العلم والإصرار على التعلم هدايا خالدة ترافقني حتى اليوم. كان قارئًا نهمًا ومثقفًا واسع الأفق، وأنا ما زلت أستنشق بعضًا من روحه في كل كتاب أفتحه.
- ماذا يعني لكِ افتتاح أول معرض فني شخصي تحت مظلة جمعية الثقافة والفنون بجدة؟
كان ذلك اليوم بمثابة لحظة ميلاد جديدة لي. أن أقف أمام أعمالي، تحت ضوء رسمي، في حضن جمعية ثقافية عظيمة، كان أشبه بتحقق الحلم الذي طالما داعب خيالي. امتلأ قلبي بالامتنان، خاصة للداعمين الذين جعلوا هذا الحلم واقعًا: الأستاذ محمد آل صبيح، والفنان سفر بن زيد، والأستاذتين آلاء الغامدي وسماح عبده، والدكتورة مها عبدالحليم رضوي التي شرّفتني بافتتاح المعرض.
- كيف كانت لحظات التحضير للمعرض؟ وما أصعب ما واجهته خلال هذه المرحلة؟
كانت كل لحظة من التحضير تحمل نكهة خاصة، مزيج من الفرح والرهبة، من التعب الجميل واللهفة. كنا نخطط ونعيد التخطيط، والقلوب تنبض بالحماس. رغم التحديات الفنية والتنظيمية، إلا أنني كنت أعيش كل ثانية وكأنها حلم يتحقق، حتى أنني كنت أحيانًا أرمش بعيني لأتأكد أنني لا أتخيل.
- كيف شعرتِ عند دخول الزوار لأول مرة إلى قاعتك الفنية؟ هل كنتِ خائفة أم واثقة من صدى أعمالك؟
لم يعرف الخوف طريقه إلى قلبي في تلك اللحظة، بل كانت مشاعري تتراقص بين الدهشة والفرح. رأيت الناس يدخلون إلى عالمي، يقرؤون ألواني، ويشعرون بما حاولت أن أقوله بريشتي. كنت أقف هناك بثقة وسعادة، وكأن الفن منحني جناحين لأحلق فوق صمتي، وأقول للعالم: “ها أنا.. وهنا صوتي.”
- من اختار طريقة عرض اللوحات؟ وهل كانت لكِ لمسة خاصة في ترتيبها أو تسلسلها؟
التنسيق الفني للمعرض كان ثمرة جهد إدارة جمعية الثقافة والفنون بجدة، التي أخصها بالشكر والتقدير على حرصها في إبراز لوحاتي بأفضل صورة ممكنة. لم تكن مجرد عملية عرض، بل كانت لغة بصرية متقنة منحت كل لوحة حقها في الظهور والتفاعل مع الجمهور.
- إلى أي مدرسة فنية تنتمين؟ وهل تميلين لتيار معين كالسريالية أو الواقعية أو التجريدية؟
أجد نفسي في عوالم الفن التجريدي والسريالي؛ أحب أن أنطلق بحرية في التعبير، وأن أترك للخيال مساحته دون أن أقيده بحدود الواقع. في هذا المزج أجد صوتي، وأعبّر عن ذاتي بعيدًا عن القوالب التقليدية.
- متى ترسمين عادة؟ هل تنتظرين شعورًا معينًا، أم لديك طقوس يومية للرسم؟
الرسم بالنسبة لي حالة شعورية خالصة. لا أفرض عليه توقيتًا، بل هو الذي يزورني فجأة؛ حين تمتلئ روحي بإحساس ما، أحتاج لترجمته فورًا إلى ألوان وخطوط. هناك لحظات لا تحتمل التأجيل، تكون اللوحة فيها أقرب وسيلة للتنفس.
- بعض لوحاتك مستوحاة من قصائد شعرية.. هل هناك لوحة معينة تعبّر عنك أكثر من غيرها؟
نعم، هناك لوحة قريبة جدًا من قلبي اسمها “محاكي الصم – أنا صماء”، وهي مستوحاة من قصيدة للشاعر الأمير عبدالرحمن بن مساعد. هذه اللوحة تختصر الكثير من مشاعري وتجربتي، وكأنها تنطق بالصمت الذي أحياه وأعبّر عنه بالفن.
- كيف تعتنين بلوحاتك وتحافظين عليها من التلف، خصوصًا أن بعضها عمره سنوات؟
أتعامل مع كل لوحة كما لو كانت قطعة من روحي. أحرص على حفظها في مكان آمن، محمي من العوامل البيئية، وأغطيها بطريقة تحفظها من الغبار والرطوبة. فكل لوحة تحمل ذكرى، وعليّ أن أحميها كما أحمي ذاكرة قلبي.
- أصبحتِ اليوم مصدر إلهام لفنانات من ذوي الإعاقة.. كيف تصفين هذا الشعور؟
هو شعور يفوق الوصف. أن تكوني سببًا في إشعال شرارة الأمل داخل شخص آخر، هو أسمى ما يمكن أن تصل إليه الروح. أفتخر بأن أكون قدوة لذوي الهمم، وأقول لهم دومًا: لا شيء مستحيل ما دمت تؤمن، خصوصًا في وطن يحتضننا ويدعمنا بلا حدود.
- ما الرسالة التي تودين إيصالها من خلال أعمالك الفنية؟
رسالتي أن يُسمَع صوتي رغم الصمت، وأن تصل ألواني إلى العالم لتقول: “هنا فنانة سعودية صماء، واجهت التحديات ولم تستسلم، صنعت من الصمت لغة، ومن الإعاقة دافعًا، ومن الحلم حقيقة.
- هل ترين أن المجتمع الفني في السعودية أصبح أكثر احتواءً للصم وأصحاب الهمم اليوم مقارنة بالماضي؟
نعم، بالتأكيد. هناك تطور ملموس في الوعي والدعم، وأصبحنا نرى مساحات أوسع تُفتح أمام أصحاب الهمم في المجال الفني. لم نعد مجرد متفرجين، بل أصبح لنا حضور فعّال وفرص حقيقية لإثبات قدراتنا وإبداعنا.
- ما طموحكِ القادم بعد هذا المعرض؟ هل تخططين لإقامة معارض خارج السعودية أو إطلاق ورش تدريبية موسعة؟
نعم، بإذن الله. أطمح أن تصل أعمالي إلى منصات عالمية، وأن أمثّل وطني في معارض دولية. كما أتمنى أن أطلق ورشًا فنية مخصصة للصم وأصحاب الهمم، لأكون جسرًا يساعدهم على اكتشاف قدراتهم وصقل مواهبهم.
- ما الذي تقولينه لطفلة وُلدت اليوم بنفس حالتك، وتخشى أن تُرفض أو تُهمّش؟
أقول لها: لا تخافي، ولا تخجلي من فقدك للسمع، فالله لا يأخذ منك شيئًا إلا ليمنحك شيئًا أعظم. ما تظنينه نقصًا، قد يكون سر تميّزك وجمالك. ثقي بنفسك، وامنحي العالم فرصة ليكتشف النور الذي بداخلك، فأنتِ قادرة على النجاح مهما كانت الظروف.