في محاولة لاستكشاف قدرة الدماغ المذهلة على إعادة بنيته ووظيفته، وكيف يبني المكفوفون خلقياً عالماً داخلياً كاملاً دون اعتماد على حاسة البصر، عبر الصوت واللمس واللغة.
وبمناسبة اليوم العالمي للإبصار الذي يوافق الخميس الثاني من أكتوبر سنويا، لطالما كان السؤال عن كيفية إدراك العالم لدى من ولدوا مكفوفين أحد أكثر الأسئلة عمقاً في علوم الإدراك البشري، نميل إلى افتراض أن غياب حاسة البصر يعني الغرق في عتمة مطلقة ومفاهيم مفقودة، لكن التحقيقات المعمقة والبحوث العصبية الحديثة تكشف حقيقة مذهلة وهي أن «الرؤية» ليست حكراً على العين، بل هي عملية تفسير معقدة تتم في الدماغ، يمكن أن تتغذى بمدخلات حسية بديلة عبر آليات تعرف باسم اللدونة العصبية.
وهنا نركز على فئة «المكفوفين خلقياً»، أي من فقدوا البصر مع الولادة أو حتى قبل سن الخامسة، لأنهم لا يمتلكون أي خبرة بصرية سابقة يمكن للدماغ أن يستند إليها، هذا النقص الجذري في المدخلات البصرية هو المحفز الذي يدفع الدماغ إلى إجراء تغييرات دراماتيكية في تنظيمه الداخلي، ما يثبت مرونته وقدرته على إعادة توظيف مناطق كاملة.
كيف ترى القشرة البصرية؟
توفر تجربة العمى المبكر أحد أكثر الأمثلة المعقد على اللدونة العصبية التي يمكن ملاحظتها في الدماغ البشري، ففي حالة غياب الإبصار منذ الولادة يتم «تجنيد» مناطق واسعة من القشرة البصرية التي تقع في الفص القذالي ويفترض أنها لمعالجة البصر، لتستجيب لمجموعة متنوعة من المهام التي تعتمد على الحواس الأخرى وتحديداً السمع واللمس.
هذا التغيير الوظيفي الذي يسمى إعادة تدوير القشرة الدماغية (، لا يقتصر على تحويل الوظيفة من البصر إلى اللمس والسمع فحسب، بل يمتد ليشمل الوظائف المعرفية العليا.

أثبتت دراسات التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) أن مناطق القشرة البصرية لدى المكفوفين خلقياً تصبح متخصصة في معالجة التركيب النحوي المعقد للجمل، هذا يدل على أن المنطقة القذالية يمكن أن تعيد تخصيص نفسها لوظائف معرفية عالية في غياب المدخل الحسي الأصلي.
يرتبط تحديد الموقع بالصدى الذي يستخدمه خبراء المكفوفين بتفعيل خرائط شبكية مكانية في القشرة البصرية الأولية، هذا يثبت أن القشرة البصرية يمكن أن تعمل كـ «وحدة معالجة مكانية» بغض النظر عن نوع المدخلات، طالما أنها تعالج معلومات عن الفضاء المحيط.
توقيت فقدان البصر يحدد مسار التكيف العصبي، حيث يؤدي العمى الخلقي إلى لدونة أقوى تمكن الدماغ من بناء هذا الواقع الداخلي بشكل أكثر شمولية.
هندسة الأشكال والرؤية بالصدى
في غياب الحاسة البصرية، تتولى الحواس المتبقية مسؤولية بناء المفاهيم وتشكيل «صور تبقى في الذاكرة» من خلال تطوير وتدريب مكثف.
تأتي حاسة اللمس كوسيط أساسي يمكن الكفيف من «تذوق الشعور بجمال العالم الخارجي»، وعبر التدريب اللمسي المبكر يدرك الطفل الكفيف الأشكال الهندسية المختلفة مثل المربع والمكعب والأسطوانة. هذا التدريب المكثف يترجم إلى قدرات إدراكية بارزة، إذ يمكن للكفيف خلقياً أن يلمس جسماً من زاوية معينة ويشكل تمثيلاً ذهنياً ثابتاً لهذا الجسم لا يتغير عندما يلمسه من زاوية أخرى، وهذه المهارة التي تسمى (View-Independent Object Recognition هي سمة أساسية للرؤية البصرية ويتم تطويرها عن طريق اللمس.
السمع وتحديد الموقع بالصدى
يُعد تحديد الموقع بالصدى أحد أكثر الأمثلة تطوراً على توظيف السمع في الإدراك المكاني، هذه المهارة ليست سماع للأصوات فقط لكنها «رؤية بالصدى» يتم فيها استخدام المعلومات الصوتية المنعكسة لتحديد موضع الأجسام وتمثيل البيئة الخارجية وبناء خريطة ذهنية ثلاثية الأبعاد للعالم المحيط، هذه التقنية تساعد الأفراد المكفوفين بشكل كبير في التنقل والتعرف على نسيج الأسطح بدقة عالية.
بما أن الإدراك الحسي المباشر للألوان غير موجود، يلجأ الدماغ إلى اللغة والربط الحسي والمفاهيمي لوصف هذه الألوان
تحدي الألوان والملامح
أحد أكثر الأسئلة إثارة للفضول هو كيف يدرك المكفوف خلقياً مفاهيم بصرية بحتة مثل الألوان، التي لا يمكنه إدراكها حسياً بسبب غياب التقاط موجات الضوء.
بما أن الإدراك الحسي المباشر للألوان غير موجود، يلجأ الدماغ إلى اللغة والربط الحسي والمفاهيمي لوصف هذه الألوان، و هذا الوصف المعتمد على الروابط المجازية يكشف أن الألوان هي «بناء لغوي معرفي» يعوض نقص الخبرة البصرية بالارتباطات العاطفية والحرارية والصوتية.
فمثلا اللون الأحمر يربط بـ الحرارة والاشتعال وبطعم الأطعمة الغنية بـ التوابل (التذوق الحاد)، بينما الأخضر يرتبط بـ الصوت والطبيعة والهدوء يوصف بحفيف أوراق الشجر، أما الرمادي فيوصف بـ الصوت والحالة الجوية القاتمة المصاحبة للعواصف والرعد.
طالع: مأساة عائلة حسب الله آدم.. «الماء الأسود» ينتزع بصر أسرة سودانية بأكملها
طالع: اليوم العالمي للإبصار.. 900 مليون شخص مهددون بالعمى وضعف البصر
إدراك الوجوه وحدود اللدونة
في حين يظهر المكفوف خلقياً تفوقاً لمسياً كبيراً في التعرف على الأجسام الهندسية، تكشف الدراسات عن مفارقة مثيرة للاهتمام فيما يتعلق بأحد أكثر الأجسام تعقيداً إنه الوجه البشري، حيث أظهرت الأبحاث أن أداء الأفراد المكفوفين خلقياً في التعرف اللمسي على الوجوه قد يكون أسوأ، ما يشير إلى أن الخبرة البصرية المبكرة قد تكون ضرورية لتطور استراتيجيات معالجة العلاقات المكانية المعقدة بين ملامح الوجه.
ويعوض المكفوف خلقياً هذا النقص بالاعتماد بشكل أكبر على التعويضات الأخرى مثل نبرة الصوت، الحرارة، والروائح لتكوين انطباع شامل عن الشخصية والسلوك.
المكفوف خلقياً لا يرى العالم كعتمة بل يعيش في واقع معقد يتميز بالمرونة العصبية الفائقة، و«الرؤية» بالنسبة لهؤلاء الأفراد هي عملية تشابك حسي يتم فيها دمج اللمس اليدوي الدقيق مع الصوت المكاني لتكوين خرائط دقيقة للفراغ.
و النجاح في بناء هذا العالم الإدراكي المعقد يعتمد بشكل كبير على التدخل المبكر وتدريب الحواس المتبقية لتصبح مهارات تلقائية فائقة الكفاءة، وخلاصة القول هي أن المكفوفين خلقياً يرون العالم ليس بالضوء بل باللدونة العصبية، ما يؤكد أن العقل يتكيف ليستخدم أفضل المعلومات المتاحة له لبناء الواقع الداخلي.