مرة آخرى يطل مرض قديم بوجه جديد في ليبيا، وهو الركيتسيا أو ما يعرف ب«حمى القراد»، حيث أعلن المركز الوطني لمكافحة الأمراض (NCDC) عن تسجيل حالات إصابة في المنطقة الوسطى، وهو ما أعاد فتح ملف المرض المستوطن، لكن هذه المرة ليس فقط بوصفه مرضا حادا يهدد الحياة، بل باعتباره مصدرا محتملا لإعاقات دائمة ترهق الأفراد والنظام الصحي على السواء.
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو.. هل يمكن أن تسبب عدوى الركيتسيا إعاقة طويلة الأمد، وما حجم التهديد الحقيقي الذي يمثله المرض في ليبيا؟
بيان المركز الوطني لمكافحة الأمراض شدد على أن المرض مستوطن في البيئة الليبية، وهذا يعني أن بكتيريا الركيتسيا ونواقلها خصوصا القراد والبراغيث ليست زائرة عابرة، بل جزء من النظام البيئي الدائم في البلاد، وتكمن خطورة التصنيف بالتوطن في أن احتمالات ظهور موجات متكررة تبقى قائمة، كما أوصى المركز المواطنين بارتداء الملابس الطويلة واستخدام الطاردات وتفادي الحيوانات المشبوهة في محاولة لكبح دورة العدوى.
غير أن البيان لم يحدد السلالة المسؤولة عن الإصابات، فهل هي R. conorii المرتبطة بحمى البحر المتوسط المبقعة، أم R. typhi المسببة للتيفوس الفأري؟ هذا الغموض يترك الأطباء في مواجهة مفتوحة مع مرض يتراوح بين معتدل نسبيا وقاتل، حيث تختلف الخطورة والإعاقة المحتملة من سلالة لأخرى.
الركيتسيا بكتيريا تضرب من الداخل
الركيتسيا ليست بكتيريا عادية فهي كائنات مجهرية إجبارية داخل الخلايا تهاجم بطانة الأوعية الدموية، والنتيجة التهاب وعائي يعطل تدفق الدم ويؤدي إلى أعراض تبدأ بالحمى والصداع والطفح، لكنها قد تنتهي بمضاعفات عصبية وجلدية خطيرة.
توضح الأبحاث الإقليمية أن ليبيا، مثل الجزائر وتونس، تشهد انتشار قراد الكلب البني (Rhipicephalus sanguineus) الذي يعد الناقل الأبرز ل R. conorii. في المقابل، فإن الإشارة إلى البراغيث في البيان الليبي تثير احتمال وجود R. typhi، وهو مرض يرتبط بالقوارض ويهدد المدن المكتظة، وهذا التباين بين القراد في الريف والبراغيث في المدن يفرض على ليبيا استراتيجيات مختلفة تماما للمكافحة.

التشخيص المتأخر والفارق بين التعافي والإعاقة
يشترك مرض الركيتسيا مع كثير من الحميات الفيروسية في أعراضه الأولى حيث يشكو المريض من حمى وصداع ووتعب عام، لكن الانتظار حتى ظهور الطفح أو نتائج المختبر هو فخ قاتل، فالتشخيص الخاطئ أو المتأخر مثثل اعتباره إنفلونزا موسمية، يعني خسارة النافذة العلاجية الحرجة خلال خمسة أيام من بدء الأعراض.
كل يوم تأخير يزيد احتمالية الانتقال إلى مرحلة المضاعفات الخطيرة مثل التهاب الدماغ والسحايا الذي قد يؤدي إلى نوبات صرع وغيبوبة أو خلل إدراكي دائم،أو القصور الكلوي والكبدي الذي يسبب عجزا عضويا طويل الأمد، أو اضطراب التنفس والدورة الدموية الذي يؤدي إلى وفيات مرتفعة تصل إلى 30% في الحالات المتأخرة.
ولهذا يشدد خبراء الأمراض المعدية على ضرورة أن يكون العلاج تجريبيا وفوريا بالدوكسيسيكلين عند أي اشتباه، دون انتظار نتائج المختبر.
من النجاة إلى العجز
النجاة من المرض لا تعني العودة إلى الحياة الطبيعية على العكس تشير التقارير الطبية إلى أن الناجين من الحالات الشديدة قد يواجهون إعاقات دائمة، وقد تتسبب الغرغرينا الناتجة عن انسداد الأوعية الصغيرة في بتر الأصابع أو الأطراف، وهو ما يغير حياة المريض جذريا، كما يؤدي تلف الدماغ نتيجة التهاب الأوعية إلى مشكلات إدراكية، وفقدان الذاكرة وصعوبات في التركيز، وقد تظهر أعراض مثل الشلل الجزئي أو اضطراب النطق والحركة.
علاوة على ذلك يعد الصمم أو العمى الناتجان عن تلف الأعصاب أو ضعف تدفق الدم، من أخطر الآثار التي لا يمكن عكسها، وعليه فإن الركيتسيا ليست مجرد مرض عابر، بل يمكن أن تكون بوابة دائمة للإعاقة.
الدواء موجود.. لكن الزمن هو العدو
يعتبر الدوكسيسيكلين هو العلاج الذهبي للركيتسيا، فهو فعال ضد جميع أنواعها وينقذ حياة المرضى إذا أعطي مبكرا، لكن المشكلة في ليبيا ليست فقط في التشخيص، بل أيضا في التحديات اللوجستية مثل نقص الإمدادات، وضعف شبكة المستشفيات الريفية، وتأخر وصول المضادات الحيوية إلى مناطق التفشي، أما البدائل مثل الكلورامفينيكول فهي أقل فعالية وتتسبب في معدلات وفاة أعلى، بينما السلفا محظورة تماما لأنها تزيد الحالة سوءا. وبالتالي، فإن إدارة مخزون الأدوية وتوزيعه جغرافيا تصبح مسألة حياة أو موت.
لم يعد السؤال هو: هل يسبب المرض إعاقة دائمة؟ بل كم من الإعاقات يمكن تجنبها إذا تحركت السلطات الصحية الليبية اليوم لا غدا؟
ولأي خطة تهدف للسيطرة على الركيتسيا في ليبيا يجب أن تتجاوز المستشفيات إلى المزارع والحيوانات، وهذا يتطلب مكافحة القراد على الكلاب والماشية باستخدام مبيدات مخصصة، وإطلاق برامج وطنية لمراقبة النواقل الحيوانية، إضافة إلى تعزيز التعاون بين وزارتي الصحة والزراعة ضمن إطار «الصحة الواحدة»، فإذا بقيت النواقل في البيئة دون معالجة، فإن موجات المرض ستستمر موسميا مهما بلغت جاهزية المستشفيات.
ولهذا كله فالركيتسيا في ليبيا تتعدى حدود الخبر الوبائي العابر، لتكون قصة عن مرض قديم يعود ليهدد حياة الناس مرتين: أولا بالموت وثانيا بالإعاقة الدائمة التي لا تقل قسوة عن الموت، فيما يكمن الحل في سرعة التشخيص و العلاج التجريبي بالدوكسيسيكلين، إلى جانب استراتيجية وطنية شاملة لمكافحة النواقل الحيوانية.
وعليه.. لم يعد السؤال هو: هل يسبب المرض إعاقة دائمة؟ بل كم من الإعاقات يمكن تجنبها إذا تحركت السلطات الصحية الليبية اليوم لا غدا؟