«الفوليك والتوحد».. جرعة فيتامين يومية قد تغيّر مستقبل أجيال قادمة

«الفوليك والتوحد».. جرعة فيتامين يومية قد تغيّر مستقبل أجيال قادمة

المحرر: محمود الغول - مصر
الفولات (فيتامين B9) مهم لحماية الأجنة من تشوهات الأنبوب العصبي، ولذلك يوصي به الأطباء للنساء قبل وأثناء الحمل.

عندما تسمع كلمة «التوحد» أول ما يخطر ببالك هو ذلك الطفل الذي يعيش في عالمه الخاص، بعيدا عن ضجيج الحياة اليومية، يتواصل بطرق مختلفة، ويفكر بطريقة لا تشبه الآخرين، بينما اضطرابات طيف التوحد أصبحت واحدة من أكثر الظواهر الطبية والاجتماعية التي تثير الجدل والقلق في المجتمعات الحديثة.

ومع ازدياد نسب التشخيص عاما بعد عام، باتت الأسئلة ملحة.. لماذا يحدث التوحد؟ وهل هناك طرق للوقاية منه أو تخفيف أعراضه؟

وسط هذا البحث الكبير ظهر حمض الفوليك أو ما يعرف علميا بالفولات، كعنصر قد يحمل الإجابة، والفولات ليس غريبا علينا هو فيتامين B9 الذي ينصح به الأطباء للنساء قبل وأثناء الحمل لحماية الجنين من تشوهات الأنبوب العصبي، لكن الجديد في الأمر أن الدراسات بدأت تشير إلى أنه ربما يلعب دورا أبعد من ذلك.. دور في احتمالية إصابة الطفل بالتوحد، فهل يمكن لفيتامين صغير أن يحدث هذا الفارق الكبير؟

هذا ما حاول موقع الويب الخاص بـ PubMed Central الإجابة عليه، وهو مستودع مجاني وكامل النصوص للأبحاث والمقالات العلمية في مجالات الطب الحيوي وعلوم الحياة، تديره المكتبة الوطنية للطب (NLM) التابعة لـ المعاهد الوطنية للصحة (NIH) في الولايات المتحدة.

قبل الدخول في التفاصيل العلمية علينا أن نفهم ما هو الفولات؟
الفولات هو أحد فيتامينات مجموعة B يلعب دورا رئيسيا في عمليات الميثلة داخل الجسم، أي إضافة مجموعات كيميائية صغيرة (مجموعات الميثيل) إلى الحمض النووي والبروتينات، هذه العملية هي بمثابة زر التشغيل والإيقاف للجينات، أي أنها تتحكم في أي جين يتم تفعيله وأي جين يظل صامتا.

خلال فترة الحمل يكون لهذه العمليات أهمية مضاعفة، لأنها تحدد كيفية نمو الدماغ وتطوره، نقص الفولات قد يؤدي إلى تشوهات خلقية خطيرة في الجهاز العصبي، لهذا السبب صار من الشائع أن يصف الأطباء للنساء مكملات الفولات أو حمض الفوليك بمجرد التفكير في الحمل، لكن الأبحاث الأخيرة ذهبت إلى ما هو أبعد.. ماذا لو كان الفولات أيضا مرتبطا بخطر التوحد؟

تظهر علامات اضطراب طيف التوحد ما بين 12 و 24 شهرا من عمر الطفل
تظهر علامات اضطراب طيف التوحد ما بين 12 و 24 شهرا من عمر الطفل

الوجه المزدوج للفولات

المراجعة العلمية المنشورة في المكتبة الوطنية الأمريكية للطب (PMC) جمعت أكثر من خمسين دراسة حاولت استكشاف الرابط بين الفولات والتوحد، والنتائج جاءت مثيرة للاهتمام لكنها أيضا معقدة.

بعض الدراسات الواسعة النطاق مثل دراسة نرويجية شهيرة، وجدت أن النساء اللواتي تناولن الفولات أو الفيتامينات المتعددة التي تحتوي على الفولات قبل الحمل أو في بداياته، كن أقل عرضة لإنجاب طفل مصاب بالتوحد، والانخفاض في الخطر كان بنسبة تصل إلى 17% بعد ضبط عوامل مثل عمر الأم ومستوى تعليمها، هذه النتيجة أعطت الكثير من الأمل، فربما يمكننا تقليل خطر التوحد بخطوة بسيطة مثل تناول فيتامين يومي.

الجرعة تصنع الفارق

لكن لم تسر الأمور بهذا الوضوح، و دراسات أخرى لم تجد أي علاقة بين الفولات والتوحد وبعضها حتى أشار إلى نتائج عكسية، مثل وجود مستويات عالية جدا من الفولات خصوصا إذا ترافق ذلك مع ارتفاع في فيتامين B12 قد ترتبط بزيادة في احتمال إصابة الطفل بالتوحد.

دراسة أخرى وجدت علاقة على شكل حرف U أي أن الجرعات المتوسطة من الفولات كانت مرتبطة بانخفاض الخطر، لكن الجرعات المنخفضة جدا أو العالية جدا ارتبطت بزيادة الخطر، الأمر بدا وكأن الجسم يحتاج إلى «توازن دقيق» لا إفراط فيه ولا تفريط، القصة لا تتوقف عند الوقاية فبعض الباحثين قرروا أن يختبروا الفولات بعد تشخيص التوحد بالفعل.. هل يمكن أن يساعد على تحسين الأعراض؟
في بعض التجارب السريرية أعطي الأطفال المصابون بالتوحد مكملات الفولينات وهو شكل من أشكال الفولات، والنتائج أظهرت تحسنا في اللغة والتواصل الاجتماعي، خاصة عند أولئك الذين لديهم أجسام مضادة تعيق دخول الفولات إلى الدماغ.

أحد الأطباء وصف الأمر قائلا: «الفولات في هذه الحالات يشبه المفتاح البديل الذي يفتح الباب أمام الدماغ ليحصل على ما يحتاجه».

الجينات القطعة المفقودة من اللغز

ما جعل القصة أكثر تعقيدا هو دخول الجينات على الخط، فهناك جين مهم اسمه MTHFR مسؤول عن تحويل الفولات إلى صورته الفعالة داخل الجسم، بعض الطفرات في هذا الجين تقلل من كفاءة عمله، وبالتالي تؤدي إلى تراكم مادة تسمى «الهوموسيستين» في الدم، وارتفاع هذه المادة ارتبط بمشاكل في النمو العصبي، وربما بزيادة خطر التوحد.

كذلك بعض الدراسات ربطت بين الطراز الجيني TT في طفرة C677T وزيادة خطر التوحد، خاصة بين بعض المجموعات السكانية مثل الصينيين، لكن دراسات أخرى لم تجد فرقا معنويا، واللافت أن تأثير هذه الطفرات قد يتغير حسب كمية الفولات التي تحصل عليها الأم، بمعنى أن الوراثة وحدها لا تحدد المصير، بل تتفاعل مع النظام الغذائي ونمط الحياة.

من الاكتشافات المثيرة أيضا وجود أجسام مضادة تسمى FRAAs لدى عدد كبير من الأطفال المصابين بالتوحد، هذه الأجسام المضادة تستهدف مستقبلات الفولات في الدماغ، فتمنع دخول الفولات إليه، وكانت النتيجة نقص وظيفي في الفولات داخل الجهاز العصبي حتى لو كان مستواه في الدم طبيعيا.

في بعض الحالات عندما أعطي هؤلاء الأطفال الفولينات التي لا تحتاج إلى المرور عبر نفس المستقبلات، ظهرت تحسنات ملحوظة في قدراتهم التواصلية والاجتماعية، وهذا فتح بابا جديدا أمام العلاج فليس كل التوحد متشابها وربما بعض الحالات تستجيب لمكملات محددة.

التجارب على الحيوانات

الأبحاث على الحيوانات دعمت هذه الفرضيات، إذ تعرضت فئران لنقص الفولات أثناء الحمل أظهرت سلوكيات شبيهة بالتوحد في صغارها، مثل ضعف التفاعل الاجتماعي وتكرار الحركات، وفي المقابل الفئران التي حصلت على مكملات متوازنة من الفولات أظهرت تطورا عصبيا أفضل، لكن مرة أخرى، الإفراط كان ضارا: الجرعات العالية جدا من الفولات أحدثت تغيرات جينية غير مرغوبة في الدماغ.

نحن حاليا أمام صورة مركبة، الفولات قد يحمي من التوحد إذا استخدم بجرعات مناسبة، وفي توقيت محدد، والفولات قد يساعد في علاج بعض الأعراض عند الأطفال المصابين بالفعل، خاصة إذا كانت لديهم أجسام مضادة أو طفرات جينية معينة.. لكن الفولات قد يكون ضارا إذا أخذ بإفراط، أو إذا لم يؤخذ في التوقيت المناسب.

هذا ما يجعل العلماء اليوم يتعاملون مع الملف بحذر شديد، فلا أحد يريد أن يعطي توصية عامة قد تضر أكثر مما تنفع.

ما يحتاجه العالم الآن هو مزيد من الدراسات الصارمة والطويلة الأمد، التي تتابع الأمهات منذ ما قبل الحمل وحتى سنوات بعد الولادة، هذه الدراسات يجب أن تراعي الجرعات، التوقيت، العوامل الجينية، والأجسام المضادة، ربما في المستقبل القريب يصبح لدينا بروتوكول واضح في شكل فحص جيني للأم، وتحليل لمستويات الفولات، ثم وصف جرعة محددة من الفولات تناسب حالتها.. خطوة بسيطة لكنها قد تغير حياة طفل بالكامل.

المقالة السابقة
الحويلة: إحياء يوم «لغة الإشارة» يعكس إيماننا بتمكين ذوي الإعاقة السمعية
المقالة التالية
الأزهر يطلق مبادرة لتأهيل الدعاة بلغة الإشارة لخدمة ذوي الإعاقة السمعية

وسوم

أمثال الحويلة (397) إعلان عمان برلين (461) اتفاقية الإعاقة (608) الإعاقة (142) الاستدامة (1100) التحالف الدولي للإعاقة (1073) التشريعات الوطنية (845) التعاون العربي (515) التعليم (83) التعليم الدامج (65) التمكين الاقتصادي (90) التنمية الاجتماعية (1095) التنمية المستدامة. (84) التوظيف (64) التوظيف الدامج (828) الدامج (56) الدمج الاجتماعي (637) الدمج المجتمعي (163) الذكاء الاصطناعي (86) العدالة الاجتماعية (73) العقد العربي الثاني لذوي الإعاقة (509) الكويت (86) المجتمع المدني (1077) الولايات المتحدة (63) تكافؤ الفرص (1070) تمكين (87) حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (527) حقوق الإنسان (76) حقوق ذوي الإعاقة (95) دليل الكويت للإعاقة 2025 (373) ذوو الإعاقة (157) ذوو الاحتياجات الخاصة. (1038) ذوي الإعاقة (529) ذوي الهمم (58) ريادة الأعمال (396) سياسات الدمج (1058) شركاء لتوظيفهم (386) قمة الدوحة 2025 (650) كود البناء (450) لغة الإشارة (72) مؤتمر الأمم المتحدة (342) مجتمع شامل (1065) مدرب لغة الإشارة (640) مصر (85) منظمة الصحة العالمية (663)