في نوفمبر 2021 أجرت السيدة شيماء محمدين (اخصائية تحاليل طبية) مقابلات مع صحف ومجلات مصرية حكت فيها مأساة طفليها التوأم (عمر وأنس) نتيجة معاناتهما المستمرة من مرض الهيموفيليا.
قالت شيماء التي تعيش في جنوب مصر بمحافظة سوهاج إنها في بداية حياتها الزوجية، لم تتمكن من الإنجاب بشكل طبيعي، فاختارت اللجوء إلى عملية الحقن المجهري، ورزقها الله بتوأمين؛ أنس وعمر، لكنها لم تكن تدرك في لحظات فرحتها الأولى ما يخبئه القدر لهما.
نزيف الختان والبداية الغامضة للكابوس
بمجرد أن قررت إجراء عملية الختان لهما في عمر الشهرين، تعرض الطفلان لنزيف حاد، ليتم احتجازهما في المستشفى أسبوعين، تلقيا خلالهما بلازما الدم صباحًا ومساءً، دون أن يتمكن الأطباء من تشخيص حالتهما، لتكتشف شيماء لاحقًا أن طفليها مصابان بمرض الهيموفيليا، وتبدأ فصول الدراما.
تفرغ الأم وسفر الأب لتأمين ثمن العلاج
قالت شيماء: “حمدت الله على نعمة الابتلاء، وقررت أن أكرس حياتي لتربيتهما والاعتناء بهما” حصلت على إجازة دون راتب، بينما اضطر زوجها -مراجع حسابات- إلى السفر للخارج؛ لتأمين ثمن الحقن التي يحتاجانها باستمرار، ولتجنب مخاطر الانتظار الطويل في ظل نظام التأمين الصحي!
نظام الصرف ومركزية العلاج
لم تكن المشكلة في العلاج فهو متوفر بكميات كبيرة، كما أكدت شيماء، الكارثة الحقيقية كما قالت تكمن في إدارة هيئة التأمين الصحي، وطريقة تحكمها في صرف الدواء، ورفضها غير المبرر إتاحته للمرضى في المنازل.
وأضافت: “المرض طارئ، وقد يحدث النزيف في أي وقت ليلاً أو نهارًا، بينما الإصرار على مركزية العلاج تجعل الحصول عليه مقتصرًا على مستشفى أو اثنين في المحافظة، بينما يقيم كثير من المرضى بعيدًا، ما يضطرهم للسفر ساعة ونصف على الأقل، «تخيلوا طفلاً لا يحمل جسده أكثر من 3 لترات من الدماء، قد يفقدها كلها قبل وصوله إلى المستشفى!». قالت شيماء.
حالات وفاة وإعاقة دائمة بسبب التأخير
حكت عن أربع حالات، ماتت بسبب نزيف في المخ، نتيجة تأخير الإجراءات. وقالت: من لم يفقد حياته، فهو معرض لإعاقة دائمة بسبب نزيف المفاصل والتجمعات الدموية التي تتطلب علاجًا خاصًا وحقن كورتيزون، بينما لا تهتم مستشفيات التأمين بمتابعة هذه المضاعفات، بل تكتفي بإعطاء حقنة واحدة لوقف النزيف، ما يؤدي إلى حالات بتر لا حصر لها.”
طالبت شيماء حينها بتوفير العلاج بشكل شهري في المنزل، قائلة: «ألم المفاصل لا يُحتمل.. أبنائي في الرابعة والنصف من العمر، أراهم يبكون ويصرخون، البالغون أيضًا يبكون من شدة هذا الألم، والكارثة أن بعض الشباب أصبحوا مدمنين بسبب تناول مسكنات مثل الترامادول، فلماذا لا نوفر العلاج في المنزل فور حدوث النزيف؟ كل مشكلاتنا تحل بتوفير العلاج المنزلي.»
وعند المطالبة بهذا الحق أمام إدارة المستشفى، لا تسمع إلا ردًا واحدًا: «هناك من يحصل على العلاج لبيعه خارج المستشفى»، لم تنف شيماء احتمال حدوث ذلك، لكنها تستدرك: «إذا حصل كل المرضى على جرعاتهم، فلن يحتاجوا إلى شراء الدواء من السوق السوداء».
اللجوء إلى «السوق السوداء» وغلاء أسعار الدواء
وقالت: وفقًا للاتحاد العالمي للهيموفيليا، كل مريض يحتاج إلى حقنتين أسبوعيًا، أي 8 حقن شهريًا، علاجية أو وقائية. نحن لا نطالب بأكثر من ذلك. وفي الحالات الطارئة، نتبرع بالعلاج لبعضنا البعض، فمرضى الهيموفيليا معروفون ومسجلون في التأمين الصحي، لكن سوء التوزيع والإدارة هو المشكلة.”
وكشفت: «معظمنا يضطر لشراء حقنتين أو ثلاث من السوق السوداء بسعر 10 آلاف جنيه للحقنة، بينما سعرها في الصيدلية 5630 جنيهاً، وذلك لأننا لا نستطيع الحصول عليها بالطرق الرسمية. »
وكانت شيماء تختتم أحاديثها قائلة: «العالم كله يعتمد على العلاج الوقائي وزرع الجينات، فلماذا لا يتوفر ذلك في مصر؟ وتصرخ: رغم استيفاء ولديّ شروط الجرعة الوقائية، تم رفض طلبي مرتين دون تفسير.. يجب وضع بروتوكول علاجي واضح، يضمن حياة كريمة وآمنة لمرضى الهيموفيليا.»
علاج منقذ لكنه يفتقر للعدالة في التوزيع
في أغسطس 2025 تواصلت «جسور» هاتفيًا بالسيدة شيماء، في محاولة لاستكمال قصة “عمر وأنس”.. ترى ماذا جرى للولدين بعد مرور 4 سنوات، هل ما زالت المعاناة مستمرة؟.. هل تسبب الروتين الطبي في حدوث مضاعفات؟.. هل ما زال عمر وأنس على قيد الحياة؟!
جاء صوت السيدة الجنوبية هذه المرة قويًا ومنتصرًا، وهي تقول لـ”جسور”: منذ 3 سنوات حدثت نقطة تحول لم نتوقعها، بعد أن قررت الدولة اعتماد علاج (Hemlibra) لمرضى الهيموفيليا، وهو علاج غالي الثمن، كل مصاب قد يكلف الدولة حوالي 300 ألف جنيه شهريًا.
قالت: العلاج عبارة عن حقنة تحت الجلد تعطى للمريض كل أسبوعين، تؤكد شيماء أن العلاج فعال جدًا، ونجح في وقف المضاعفات، وتقول: لم يتعرض أطفالي لأي نزيف منذ ذلك الوقت، ويمارسون حياتهم بشكل طبيعي، سواء في المدرسة، أو النادي بممارسة الألعاب الرياضية.
ورغم أنه لا بد من الذهاب إلى المستشفى للحصول على الحقنة، إلا أن المريض مع هذا العلاج يكون معافى، وغير مصاب بالنزيف كما كان يحدث في الماضي.
اللجان الطبية تفضل الحالات المتأخرة فقط
تقول شيماء: عمر وأنس اليوم مستقرين في المدرسة.. أنا أيضًا عدت إلى عملي، لكن المشكلة تكمن في عدم العدالة في توزيع العلاج، هناك الكثير من الأشخاص الذين يعانون من المرض، ولا يحصلون على “الحقنة”، لأن اللجان الطبية تختار أصحاب الحالات المتأخرة من المرضى، بسبب ارتفاع سعرها.
أولادي حصلوا عليه لأنهم أصيبوا بتليف أوردة، وغيرهم حصل عليه لإصابته بأجسام مضادة، أو تشوه مفاصل، أو نزيف في البول أو البطن أو المخ، هذه الحالات وصلت إلى مرحلة خطرة فاعتبرتهم اللجان الطبية أولى بالعلاج من غيرهم.
العلاج الجيني وحلم تسجيله رغم ثمنه الفلكي
أعداد كبيرة من مرض الهيموفيليا لا يحصلون على ذلك العلاج تؤكد شيماء، وتضيف: حدث تطور طبي مذهل في علاج المرض جينيًا، هناك أقراص تؤخذ مرة واحدة في العمر للمريض، ولكن ثمنها 3 مليون دولار لكل حالة، وهي تكلفة عالية جدًا، وبالتالي ليس أمامنا إلا أن نتمنى فقط تسجيله في مصر.
احتكار القرار الطبي ورفض المساءلة
«جسور» تواصلت مع الدكتور حسام عبد الغفار المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة المصرية لتسأله عن إمكانية إعطاء الحقنة لجميع مرضى الهيموفيليا الذين لا يتجاوز عددهم 11 ألف شخص.
قال عبد الغفار: إن هذا عمل اللجان الطبية، هي من بيدها قرار إعطاء الدواء لشخص، دون آخر، ولا نستطيع التدخل في عملها، وحين واجهناه بما يقوله أصحاب الحالات قال عبد الغفار: نحن لا نأخذ قرارات بناء على كلام المرضى، وإلا لماذا نشكل اللجان الطبية؟!
كنا نتوقع أن تجد شكاوى أهالي المرضى طريقها إلى أذنيّ المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة، ويطلب كشوفات بأسماء المحرومين من الأدوية ممن يعانون من المرض نفسه، ليبدأ التحقيق في المسألة، لكن عبد الغفار رفض مجرد الاستماع إلى حديث الأهالي عن التشكيك في اللجان الطبية باعتبارها صاحبة الكلمة الوحيدة والعليا، ولا يمكن مراجعتها بأي شكل.