الهيموفيليا تلتهم محمد.. تفاصيل مكالمة «الفرصة الأخيرة» من عنبر 19 بالقصر العيني

الهيموفيليا تلتهم محمد.. تفاصيل مكالمة «الفرصة الأخيرة» من عنبر 19 بالقصر العيني

المحرر: محمود الغول - مصر
الهيموفيليا تلتهم محمد

انتشر قبل أيام منشور (post) على فيسبوك، يكشف أن الهيموفيليا تلتهم محمد. ذلك الشاب المصري الذي فقد ساقيه، والآن يده مهددة بالبتر. لهذا قررت التواصل مباشرة مع صاحب الوجع، «محمد صابر» نزيل مستشفى القصر العيني. والذي له نصيب كبير من اسمه.. صابر.

ما سمعته منه عبر الهاتف كان أكثر رعبا وقسوة مما نشر في البوست. إذ كشف محمد بصوت منهك تفاصيل «قرار البتر المتسرع» وكواليس اللحظات الأولى لدخوله المستشفى. ولهذا ننقل في هذا التقرير صرخته الحية كما نطقها بلسانه، لا كما نقلت عنه.

الهيموفيليا تلتهم محمد

بصوت يغلفه القهر، روى محمد تفاصيل استقباله في المستشفى. فبمجرد دخوله، لم يستغرق طبيب العظام سوى دقائق معدودة ليصدر حكمه القاسي، حسب قوله. موضحا: «ملحقتش أقعد خمس دقايق على السرير.. الدكتور شافني وقال فورا: بتر». مضيفا بمرارة أن الطبيب برر ذلك بأن النزيف «أكل العظم». وهذا التشخيص السريع، دون استنفاد كافة المحاولات، نزل كالصاعقة على شاب لم يتبق له من جسده الكثير.

لم يستسلم محمد لهذا الحكم، بل قاوم بعزيمة منقطعة النظير. حيث واجه الطبيب بحقيقة حالته الوظيفية التي يشعر بها. وقال له: «يا دكتور أنا بحرك صوابعي ودراعي.. الورم بس هو اللي واقف في المفصل». ما يعني أن يرفض محمد أن تبتر يده بناء على نظرة عابرة، فهي كل ما تبقى له. ولذلك يطالب بتنظيف الورم ومحاولة العلاج أولا. يؤكد هذا الموقف أن المريض أحيانا يكون أعلم بجسده من الجميع، فهو يتمسك بآخر خيط للأمل.

ما يطلبه محمد الآن ليس مستحيلا، بل هو أبسط حقوق المريض. والذي صرح لي في الهاتف قائلا: «أنا عايز دكاترة تانية تشوفني.. عايز أسمع رأي واتنين وتلاتة». ذلك معناه أنه يخشى أن يكون قرار البتر هو «الحل السهل» في نظر الأطباء لإنهاء الحالة. ولذلك، يطالب بعرضه على استشاريين في الأورام والأوعية الدموية، وليس العظام فقط. فهو يريد استنفاد كل الحلول الطبية «تنظيف، جراحة دقيقة، علاج دوائي» قبل أن يقع الفأس في الرأس.

عقبة الأشعة والدواء

كشفت المكالمة عن تفاصيل طبية دقيقة تعطل إنقاذه. حيث أوضح محمد أن الأطباء في المستشفى الميري في الإسكندرية طلبوا منه «أشعة بالصبغة» لتحديد حجم الضرر بدقة. ومع ذلك لم تجر له الآشعة وهو لا يعلم السبب. ومع ذلك تبقى المشكلة الكبرى في الدواء (حقن الفاكتور). إذ قال بأسى: «رئيس القسم قالي لازم حقن غالية بتتباع بره.. إزاي مش موجودة في المستشفى؟». وهنا تتلاقى مأساته مع القصة المعروفة عن الحقن المحتجزة في المطار. الحل موجود طبيا، لكنه ممنوع إداريا وجمركيا.

عاد بي محمد في المكالمة إلى بداية الكابوس ليوضح لماذا يتمسك بيده بهذا الاستماتة. بدأت القصة منذ كان عمره 4 شهر فقط، ثم تفاقمت لحالة بنزيف وهو طفل في الحادية عشرة من عمره. وفي السنة التالية مباشرة، فقد ساقه الأولى (فوق الركبة). لم يرحمه المرض، ففي السنة الثالثة فقد الساق الأخرى. واليوم وهو يصارع هذه النوبة، يرفض أن تكون يده هي الضحية الثالثة. يقول: «أنا مريض بقالي سنين.. وعارف إن فيه حلول غير القطع».

طالع: المسؤول أغلق أذنيه.. أم مصرية تروي معاناة توأمَيها مع الهيموفيليا

لعل أكثر جملة مؤلمة قالها لي محمد في اتصالنا كانت وصفه ليده. قال بصوت مختنق: «دراعي هو اللي بقيلي.. ده سلاحي اللي باقي». بالنسبة لشخص مبتور القدمين، اليد ليست طرفا عاديا، بل هي «القدم» التي يحرك بها كرسيه، وهي الأداة التي يخدم بها نفسه. بتر اليد يعني تجريده من سلاحه الوحيد في معركة الحياة، وتحويله إلى عاجز كليا ينتظر من يسقيه الماء.

ولفهم خطورة الموقف، يجب أن نعرف كيف تعمل الهيموفيليا تلتهم محمد. هذا المرض يمنع الدم من التخثر، مما يجعل أي نزيف داخلي في المفاصل كارثة. يتجمع الدم داخل المفصل، ويضغط على الأعصاب والأوعية الدموية، ويسبب تآكل العظام وتلف الأنسجة. الحل الوحيد هو حقن الفاكتور التعويضي فورا لوقف النزيف. كل دقيقة تأخير تعني تلفا لا يمكن إصلاحه، وهو ما يؤدي حتما للبتر. وفق موقع مايوكلينك.

الهيموفيليا تلتهم محمد
الهيموفيليا تلتهم محمد

نداء للرئيس: «أنا حقي رايح»

اختتم محمد مكالمته بنداء استغاثة لا يقبل التأجيل. قال: «أنا تعبت.. ومحتاج صوتي يوصل للرئيس السيسي.. أنا حقي رايح». يشعر محمد أن المنظومة الروتينية تخذله، وأن الأطباء يستسهلون البتر، وأن الجمارك تحتجز دواءه. يرى في تدخل الرئيس الأمل الوحيد لإجبار الجميع على التحرك بضمير «طبي» وليس بجمود «إداري».

يرقد محمد الآن في قسم 19 بمستشفى القصر العيني، في حالة نفسية سيئة للغاية. كل دقيقة تمر دون إجراء الأشعة المطلوبة أو وصول الدواء، تقربه خطوة نحو غرفة العمليات للبتر. الضغط النفسي عليه هائل، فهو يرى الأطباء يجهزونه لقرار يرفضه، بينما الدواء الذي ينقذه يبعد عنه مسافة دقائق في المطار.

الهيموفيليا تلتهم محمد.. فهل نتركه؟

تتجسد المأساة في أن الهيموفيليا تلتهم محمد ببطء، ونحن نتفرج. المطلوب الآن وبشكل فوري بناء على حديث المريض: لجنة طبية عليا: تشكيل لجنة من كبار استشاريي القصر العيني لتقييم الحالة «بضمير» والاستماع لرغبة المريض في تنظيف الورم أولا. والإفراج الجمركي: تدخل مجلس الوزراء فورا للإفراج عن حقن «الفاكتور» المحتجزة أو توفير البديل فورا من مخازن الوزارة. وكذلك تسهيل الأشعة: سرعة إجراء أشعة الرنين بالصبغة المطلوبة دون انتظار الدور والروتين.

لا للبتر السهل

في الختام، رسالة محمد كانت واضحة: «أنا مش موافق على البتر.. أنا لسه بحرك إيدي». يجب أن نحترم رغبة هذا المقاتل وأن نمنحه فرصة حقيقية للعلاج. لهذا نقول لا تتركوا محمد يفقد «سلاحه الأخير» بسبب استسهال طبيب أو ختم موظف جمارك. أنقذوا ما تبقى من إنسان، قبل أن يتحول إلى مجرد رقم في سجلات العجز.

المقالة السابقة
ملتقى توعوي في قطر يعزز تطبيق قانون حقوق ذوي الإعاقة
المقالة التالية
تطوير منظومة الخدمات المقدمة لذوي الهمم بـ «سكك حديد مصر»