ألمانيا – جسور- فاطمة الزهراء بدوي
تنطلق غدا الإثنين، في ألمانيا، فعاليات يوم فخر التنوع العصبي، ضمن حراك عالمي واسع يشمل أكثر من خمسين دولة، بهدف الاعتراف بالأشخاص ذوي الفروقات العصبية، كجزء أصيل من نسيج المجتمع الإنساني. ويُعد هذا اليوم مناسبة سنوية للاحتفاء بالتنوع في طرائق التفكير والتعلم والإدراك، بعيدًا عن المفاهيم الطبية أو التصنيفات التقليدية التي لطالما أحاطت بهذه الفئات.
تنطلق فعاليات هذا العام في ألمانيا بحدثين رئيسيين، أولهما مؤتمر رقمي مفتوح يُبث مباشرة على مدار ساعات اليوم، ويتضمن جلسات نقاشية وورش عمل، يشارك فيها باحثون وناشطون وأشخاص ذوو خبرات شخصية مع التوحد، واضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه، وعسر القراءة، وغيرها من أشكال التنوع العصبي. ويُقدم المؤتمر بالألمانية، ويتيح المجال للمشاركين لطرح رؤاهم بشأن سبل بناء بيئة أكثر احتواءً ودعمًا لهذه الفئات، خاصةً في مجالي التعليم والعمل.

أما الحدث الثاني فيتمثل في رفع علم التنوع العصبي للمرة الأولى في مدينة فرانكفورت، بمشاركة عدد من المنظمات المحلية والأفراد من المجتمع المدني. ويرمز رفع العلم إلى الاعتراف الرمزي بحق الأفراد المختلفين عصبيًا في الوجود والكرامة والتمثيل، ويمثل علامة على الانفتاح المتزايد في المجتمع الألماني تجاه هذا النوع من التنوع، الذي ظل لعقود طويلة موضوعًا مسكوتًا عنه أو محاطًا بالوصم.
تُقام الفعاليتان تحت إشراف لجنة تنسيق محلية يترأسها ناشطان في مجال حقوق ذوي الاختلافات العصبية، يعملان على تنظيم الأنشطة منذ العام الماضي، حينما انضمت ألمانيا رسميًا إلى شبكة ND Pride العالمية. وتؤكد اللجنة أن اختيار فرانكفورت مركزًا للحدث الرمزي جاء لكونها مدينة كوزموبوليتانية تحتضن تنوعًا ثقافيًا واجتماعيًا كبيرًا، الأمر الذي ينسجم مع رسالة اليوم المتمثلة في احتضان جميع الفروقات.
وتتوسع أنشطة اليوم لتشمل مشاركة مجتمعية رقمية واسعة، إذ تُنشر قصص وتجارب عبر وسم #NeurodiversityPrideDay على منصات التواصل، في محاولة لكسر الصورة النمطية المرتبطة بالأشخاص المختلفين عصبيًا، والتي تضعهم غالبًا في خانة العجز أو القصور. وتساهم المنصات الرسمية في نشر محتوى تعريفي مبسط، يشرح الفروقات العصبية بلغة خالية من الوصم، ويشجع على استخدام مصطلحات تحترم الذات والهوية.

على الصعيد المؤسسي، أعلنت بعض الشركات الألمانية عن خطوات أولية لإعادة النظر في سياسات الدمج والتوظيف لديها، بما يتماشى مع دعوات المنظمات الداعمة للتنوع العصبي. وتشمل هذه الخطوات تعديل بيئات العمل، وتصميم برامج تدريب مرنة، وتوفير مسارات وظيفية لا تعتمد حصريًا على التواصل اللفظي أو المهارات الاجتماعية النمطية. وأبرزت بعض الشركات قصص نجاح لموظفين يعانون من تحديات في التواصل، لكنهم يحققون أداءً متميزًا في المهام التحليلية أو البرمجية أو التقنية الدقيقة.
ورغم هذه التحركات، لا تزال الفجوة قائمة بين الخطاب العام والممارسات الفعلية، بحسب تصريحات عدد من المشاركين في المؤتمر الرقمي، الذين أشاروا إلى أن الاعتراف الرمزي، وإن كان خطوة إيجابية، لا يكفي بمفرده لتغيير واقع ما زال يتسم بالإقصاء في مجالات التعليم، والتوظيف، والرعاية الصحية. وطالب المشاركون بسن تشريعات واضحة تُلزم المؤسسات بتوفير بيئات شاملة، لا تكتفي بالشعارات، ولكن تضمن تدريب الكوادر، وتبني سياسات تعليمية تراعي الفروق الفردية.
ويُشار إلى أن ألمانيا، رغم تقدمها في بعض جوانب دمج الأشخاص ذوي الإعاقة، لا تزال تواجه تحديات في إدماج ذوي التنوع العصبي، خاصةً في نظامها التعليمي الذي يُصنف بصرامة ويضع الطلاب في مسارات ثابتة منذ المراحل المبكرة. كما تفتقر العديد من المؤسسات إلى أدوات تشخيص دقيقة، وإلى مرونة في التعامل مع من يخرجون عن “المألوف” من حيث التفاعل أو التنظيم أو التحفيز.
ويأمل منظمو اليوم أن يكون الاحتفاء بالتنوع العصبي نقطة انطلاق لنقاشات أوسع في المجتمع، لا تتوقف عند الاحتفالات الرمزية، ولكن تمتد إلى إعادة تعريف مفاهيم النجاح، والتكيف، والمواطنة، انطلاقًا من الإيمان بأن المجتمعات الأكثر عدلًا هي تلك التي تمنح الجميع مساحة آمنة ليكونوا على حقيقتهم.