يوافق اليوم، الرابع عشر من ديسمبر، ذكرى ميلاد النجمة الأمريكية الراحلة باتي ديوك. في هذا اليوم من عام 1946، ولدت طفلة قدر لها أن تكون صوتا للمهمشين بطريقتين مختلفتين تماما. حيث عرفها العالم لأول مرة وهي طفلة معجزة تجسد معاناة الصمم والعمى على الشاشة.
في هذه السطور نتعرف على حياتها المليئة بالتناقضات والنجاحات والانتكاسات المؤلمة. لكن، الأهم من ذلك، نستعرض كيف تحولت من مجرد ممثة إلى أيقونة لحقوق ذوي الإعاقة النفسية. لذلك، تعد قصتها وثيقة إنسانية فريدة تجمع بين الفن والنضال الحقوقي.
باتي ديوك صانعة المعجزات
بدأت علاقة باتي ديوك بعالم الإعاقة في سن مبكرة جدا ومبهرة. فقد لعبت دور هيلين كيلر في مسرحية «صانعة المعجزات» ثم في الفيلم الشهير عام 1962. وفقا للنقاد السينمائيين، كان أداؤها صادقا لدرجة أن الكثيرين اعتقدوا أنها تعاني فعلا من فقدان السمع والبصر.
في الواقع، بذلت ديوك جهدا جبارا لتعلم لغة الإشارة وفهم العزلة التي يعيشها الكفيف الأصم. نتيجة لذلك، نالت جائزة الأوسكار كأفضل ممثلة مساعدة وهي في السادسة عشرة من عمرها فقط. هذا الدور لم يمنحها الشهرة فحسب، بل جعلها سفيرة غير رسمية لقضايا الإعاقة الحسية في الستينيات. وفق أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة.
بينما كانت باتي ديوك تتقن دور الفتاة المعاقبة حسيا، كانت تخوض حربا ضروسا مع إعاقة أخرى غير مرئية. حيث كانت تعاني من تقلبات مزاجية عنيفة وحادة لم يفهمها أحد في ذلك الوقت. علاوة على ذلك، وصف المحيطون بها تصرفاتها بأنها مجرد نوبات غضب لنجمة مراهقة مدللة.
مع ذلك، كانت الحقيقة أعمق وأخطر بكثير من مجرد دلال النجومية. إذ كانت تعاني من اضطراب ثنائي القطب غير المشخص. لذلك، عاشت سنوات من الجحيم النفسي، تتأرجح بين الهوس الشديد والاكتئاب السوداوي القاتل.
طالع: تحديات ذوي الإعاقة النفسية.. 1 من كل 7 أشخاص يعاني اضطرابا عقليا في العالم
معضلة التشخيص المتأخر للحالة
استمرت معاناة باتي ديوك في الظل لسنوات طويلة دمرت فيها أجزاء كبيرة من حياتها الشخصية. أخيرا، وفي عام 1982، حصلت على التشخيص الطبي الصحيح لحالتها العقلية. حسب ما ذكرته في مذكراتها، كان معرفة اسم المرض بمثابة طوق النجاة الذي انتشلها من الغرق.
بسبب هذا التشخيص، بدأت رحلة العلاج باستخدام دواء الليثيوم الذي أعاد لها توازنها المفقود. في تلك اللحظة، أدركت ديوك أن ما تعانيه هو حالة طبية أو إعاقة كيميائية في المخ وليس عيبا شخصيا. من هنا، قررت أن تقود معركة جديدة، ولكن هذه المرة بلا قناع. حسب كتاب سيرتها الذاتية Call Me Anna .

في الثمانينات، كان الحديث عن الأمراض النفسية يعتبر وصمة عار كبرى وسببا لإنهاء المستقبل المهني. رغم ذلك، اتخذت باتي ديوك قرارا شجاعا وتاريخيا بكشف حقيقة مرضها للجمهور. حيث أصدرت كتاب سيرتها الذاتية بعنوان Call Me Anna (نادني آنا) عام 1987.
وفقا لمراجعات صحيفة نيويورك تايمز، كان الكتاب صادما وصريحا في سرد تفاصيل الحياة مع الإعاقة النفسية. بناء على ذلك، تحولت ديوك من ممثة محبوبة إلى بطلة قومية في أعين ملايين المرضى الصامتين. لقد منحتهم الشجاعة ليعترفوا بآلامهم ويطلبوا المساعدة الطبية دون خجل.
النشاط الحقوقي ولوبي الصحة العقلية
لم تكتف باتي ديوك بالتأليف والحديث الإعلامي فقط. بل تحولت إلى ناشطة سياسية وحقوقية شرسة في أروقة الكونغرس الأمريكي. حيث تعاونت مع المعهد الوطني للصحة العقلية للمطالبة بزيادة تمويل الأبحاث.
علاوة على ذلك، ضغطت بقوة من أجل إقرار تشريعات تضمن المساواة في التأمين الصحي للأمراض العقلية. كانت حجتها دائما أن الدماغ عضو في الجسد مثل القلب، ومرضه يجب أن يعامل بنفس الجدية. لذلك، ساهمت جهودها في تغيير السياسات الصحية العامة بشكل ملموس.
وساهمت باتي ديوك بشكل كبير في ترسيخ مفهوم أن المرض النفسي المزمن هو نوع من الإعاقة. إذ يمنع الشخص من ممارسة حياته اليومية والعملية إذا لم يتلق الدعم والعلاج المناسبين. في الواقع، كانت رؤيتها سابقة لعصرها، وتوافقت لاحقا مع نصوص اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة.
بسبب نشاطها، بدأ المجتمع ينظر للمصابين باضطراب ثنائي القطب كأشخاص ذوي قدرات خاصة يحتاجون للدعم لا للعزل. كما أكدت دائما على إمكانية التعايش والنجاح رغم وجود المرض. هكذا، حطمت الصورة النمطية للمريض النفسي العاجز أو الخطير.

الإرث الفني والإعاقة في السينما
بالعودة إلى الجانب الفني، يظل دورها كـ هيلين كيلر مرجعا أساسيا في السينما العالمية. حتى اليوم يدرس النقاد كيف استطاعت فتاة مبصرة وسامعة أن تنقل عالم الصمت والظلام بهذه الدقة. من المؤكد أن أداءها ساهم في لفت نظر العالم لقدرات الأشخاص ذوي الإعاقة الحسية على التعلم.
إضافة إلى ذلك، أنتجت ومثلت في أفلام تلفزيونية لاحقة تناولت قضايا الصحة العقلية بجدية. لذلك، سخرت فنها لخدمة قضيتها، وجعلت من الشاشة منبرا للتوعية. باتي ديوك أثبتت أن الفن رسالة إنسانية قبل أن يكون ترفيها.
نالت باتي ديوك العديد من التكريمات عن دورها في التوعية بالصحة النفسية. حيث اعتبرتها الجمعيات الطبية والنفسية شريكا استراتيجيا في معركتهم ضد الجهل بالمرض. وفقا لتصريحات ابنها الممثل شون أستين، كانت تفخر بنشاطها الحقوقي أكثر من فخرها بجائزة الأوسكار. حسب موقع Psychiatry Online التابع للجمعية الأمريكية للطب النفسي.
هذا يدل على عمق التزامها بقضية رفع المعاناة عن الآخرين. في الحقيقة، كانت تتلقى آلاف الرسائل من أشخاص يخبرونها أن كتابها أنقذ حياتهم من الانتحار. لذا، كان تأثيرها الإنساني أعمق وأبقى من تأثيرها السينمائي.
باتي ديوك ودرس القوة في الضعف
علمتنا باتي ديوك أن الاعتراف بالضعف هو قمة القوة الإنسانية. فقد حولت مأساتها الشخصية إلى قوة دافعة للتغيير المجتمعي والقانوني. كما أثبتت أن الشخص ذو الإعاقة (النفسية أو الحسية) قادر على الإبداع والوصول للقمة.
بناء على ذلك، يجب أن نستلهم من ذكراها أهمية الدعم النفسي والتقبل المجتمعي. لأن خلف كل تشخيص طبي إنسان مبدع ينتظر الفرصة المناسبة للظهور. باتي ديوك هي الدليل الحي على أن «صانعة المعجزات» لم يكن مجرد اسم فيلم، بل كان وصفا لحياتها.
وختاما، وفي ذكرى ميلادها اليوم نتذكر باتي ديوك بامتنان كبير. لقد رحلت عن عالمنا في 2016، لكن صوتها لا يزال يصدح بالحق في أروقة الصحة النفسية. باختصار، كانت امرأة عاشت ألف حياة في حياة واحدة، ومنحت الأمل للملايين. أخيرا، تظل قصتها تذكيرا بأن الإعاقة الحقيقية هي الاستسلام، وهو ما لم تفعله باتي أبدا.



.png)


















































