في السابعة عشرة من عمره، لم يكن، البروفيسور هيو هير Hugh Herr، مجرد مراهق عادي. كان متسلق جبال شغوفًا، يتحدى القمم، ويخترق الضباب، ويقترب أكثر فأكثر من السماء، وذات يوم، وبينما كان يتسلق إحدى القمم، داهمته عاصفة ثلجية أنهت كل شيء. ظلّ محاصرًا في الجليد أيامًا، حتى انتهى به الأمر إلى فقدان ساقيه من أسفل الركبة بقضْمَة صقيع.
بالنسبة لشخص آخر، ربما ستكون تلك نهاية الحلم، ونهاية الجسد، وربما نهاية الحياة كما يعرفها. لكن هيو، بعزيمة لا تلين، رفض أن يكون جسده المبتور نهاية قصته. بدلًا من ذلك، جعله بداية جديدة تمامًا. لم يبحث عن “استبدال” ساقيه، بل عن تطويرها. لم يقبل بدور الضحية، بل أعاد اختراع نفسه.
سنوات قليلة بعد الحادث، لم يعد هيو إلى تسلق الجبال فحسب، بل بدأ يصنع أطرافًا ذكية تتحدى الفكرة السائدة عمّا يمكن لجسد مبتور أن يفعله. لم تكن “الأطراف الصناعية” عنده أدوات تعويض، بل أدوات تحوّل.
اختراعات تتجاوز الجسد
حين خرج هيو هير من محنته الشخصية، لم يكتفِ فقط بالعودة إلى الحياة، بل قرر أن يصنع حياة جديدة لكل من يشبهه. ما صمّمه لم يكن مجرد طرف اصطناعي، بل امتدادًا للجسد، يجمع بين الذكاء الصناعي والجسد البشري الحقيقي.
في عام 2007، كشف عن اختراعه الثوري والأشهر”الركبة البيوني” جهاز لا يقل ذكاءً عن صاحبه. فهذا الطرف الذكي يقرأ وضعية الجسد ووزنه، ويستجيب لها بطريقة تحاكي الحركة البشرية الطبيعية، كما لو أن الساق لم تُبتر أبدًا. تعتبر هذه خطوة إلى الأمام ليس فقط في التكنولوجيا، بل في الفهم العميق لمعنى الحركة.
وبعدها بثلاث سنوات، قدّم BiOM T2، أول قدم وكاحل في العالم يعملان بالبطارية، ويقومان بما كانت تقوم به القدم الحقيقية: استشعار، وتوازن، وحركة سلسة، وانطلاق للأمام. كل ذلك بدقة إلكترونية تحاكي الجسد الحي، بل في بعض الأحيان، تتفوّق عليه.
تغيير في حياة الآلاف
في عالمٍ تُبتر فيه ملايين الأطراف سنويًا، لأسباب مختلفة: مرض، وحوادث، وحروب، تأتي هذه الاختراعات كنور ساطع في نفق طويل. وحدها الولايات المتحدة تُسجّل نحو 185 ألف عملية بتر كل عام. هذه الأرقام ليست أرقامًا فقط، بل حكايات لأجساد قُطّعت وأحلام ضاعت.
لكن بفضل تكنولوجيا هير، أصبح آلف الأشخاص يسيرون على أقدام بيونية، يمارسون حياتهم باستقلالية، وربما يركضون أيضًا.
من الحلم إلى السوق
ما بدأ كتجربة شخصية صار شركة. في 2007، أسس هيو شركة iWalk التي أصبحت لاحقًا BionX Medical Technologies، وجمع فيها بين العلم ورؤية الإنسان الذي فقد جزءًا من جسده ولم يفقد إيمانه بالتطور.
الشركة جذبت ملايين الدولارات من الاستثمار، وحققت أرباحًا بملايين أخرى. وبعدها انتقل الاختراع إلى العالمية، حين اشترت شركة Össur الأيسلندية حقوق تصنيع الركبة البيونية، وأطلقتها باسم Rheo Knee. .
حين يلتقي الجسد بالذكاء
ليس سرًّا أن هيو هير لا يصنع “أطرافًا” فقط، بل يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والآلة. في ركبته الذكية، سائل كهرومغناطيسي يتفاعل مع الوضعيات، يتحرك، يتجمد، يمتص الصدمات. كل ذلك بتحكم إلكتروني فائق الدقة. أما في كاحله الآلي، فالمستشعرات، ترصد كل زاوية وانحدار، وترسل للنوابض الداخلية أوامر متى تدفع الجسد للأمام.
وحاليا ومن قلب “معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا” (MIT)، يقود البروفيسور هيو هير مجموعة أبحاث تُعرف باسم “البيوميكراترونكس” داخل MIT Media Lab في بوسطن. منذ عام 2000، يعمل مع فريق يضم أكثر من 35 باحثًا ومهندسًا، في مساحة لا تفصل بين الخيال العلمي والتطبيق الحقيقي. هدفهم: أن يعيدوا للمبتورين ليس فقط حركتهم، بل حريتهم في أن يعيشوا كما يشاؤون، بلا قيود. لديه أكثر من 60 بحثًا علميًا، 30 براءة اختراع.
ما بعد الجسد: رياضة وأرقام قياسية ومستقبل
ربما الأجمل في حكاية هيو هير، أنها لا تتوقف عند العلاج، بل تمتد إلى الإنجاز. ففي عام 2008، تسببت أطراف “شيتا” الشهيرة، والتي اشتُقّت تقنيتها من أفكار بيونية، في حظر الرياضيين المبتورين من المشاركة في الأولمبياد، بحجة “التفوق غير العادل”! أصبح الطرف الصناعي متفوقًا على الطبيعي.
وفي بطولة العالم للمعاقين عام 2015 في قطر، اجتاحت شركة Össur المشهد بـ17 ميدالية، و6 أرقام قياسية جديدة، كان أبرزها العداء الأمريكي ريتشارد براون جونيور، الذي أنهى الـ100 متر في 10.61 ثانية.