شهد افتتاح المتحف المصري الكبير، أمس السبت، استحضارا مهيبا لأحد أبرز فصول الحضارة المصرية القديمة، وهو الإرث الطبي.
جاء ذلك عبر تصريح جراح القلب العالمي، الدكتور مجدي يعقوب، الذي قال إن الطب في مصر القديمة كان يُعتبر «مهنة مقدسة»، مشيرا إلى أن الكهنة هم من تعلّموا أسرار التحنيط والدواء والتشريح..
ووفقاً لما ذكره يعقوب، أجرى القدماء عمليات جراحية معقدة في المخ والقلب، وصنعوا أول أطراف صناعية.
تسليط الضوء على جراحة القلب والمخ تحديدا، من قبل جراح قلب عالمي، يشير إلى أن التعقيد التشريحي والمهارة الجراحية، التي تمثل أسمى مستويات الجراحة الحديثة، كانت محور اهتمام الأطباء في وادي النيل. وتابع يعقوب قائلاً: «بشوف الخيط اليوم ممتد من جراح مصري قديم إلى جراح يعالج القلوب بأدوات العصر»، مؤكداً بذلك على سلسلة متصلة من الإنجاز الطبي لا تتوقف.
النظام المؤسسي لبيت الحياة
لم يكن وصف الطب بأنه «مهنة مقدسة» مجرد تعبير بلاغي، إنما هو انعكاسا لدوره المؤسسي وارتباطه الوثيق بالمعابد والدولة، إذ كانت مؤسسات «بيت الحياة» (Pr-Ankh) تلعب دورا محوريا في هذا الإطار.
حسب الوثائق القديمة، كانت هذه البيوت بمثابة مراكز تعليمية وبحثية شاملة، لا تتعامل فقط مع الطب، بل مع جوانب علمية ومعرفية متعددة، وكانت بمثابة مكتبات ضمت أهم المعارف في ذلك الوقت.
وفقاً للدليل الأثري، وُجدت مدارس للطب في المعابد الكبرى والمدن الرئيسية، مثل تل بسطة (الزقازيق)، وصا الحجر (الغربية)، وأبيدوس (سوهاج)، وعين شمس (القاهرة). وتظهر النصوص مدى صرامة المنهج التعليمي، فمن وثائق سايس، أكد كبير الأطباء «وجاحور رزنت» على أهمية العناية بمدرسة الطب بجميع فروعها، مشدداً على ضرورة «أن نختار أحسن الطلاب لدراسة هذا العلم».
قاعدة «القلب» والبرديات المتقدمة
الطابع اللاهوتي كان متداخلا بعمق مع الممارسة السريرية، ويظهر ذلك جليا في دور كهنة الإلهة «سخمت»، التي كانت تعبد كإلهة تحكم بالعدل، ويعتقد أن الأمراض ناتجة عن غضبها، بينما رضاها يعني الشفاء. إن هذا التداخل يفسر سبب قول يعقوب أن الأطباء القدماء جمعوا بين «الجسد والروح» في علاجهم.
أما المنهجية العلمية والتشريحية فقد وثقتها البرديات الشهيرة. فتعد بردية إدوين سميث مرجعاً جراحياً متقدماً، يركز على التشخيص السريري للإصابات والكسور، ويظهر معرفة تفصيلية بالتشريح. وقد وصفت البردية بدقة تلافيف الدماغ والسحايا والسائل الدماغي الشوكي، وهو ما يتسق مع إشارة يعقوب إلى إجرائهم لـ «عمليات في مخ».
طالع: من برايل إلى عربات الجولف.. تجربة ثقافية متكاملة لذوي الهمم بالمتحف المصري الكبير
والأهم من ذلك، أن البرديات نصت على مقولة تأسيسية: «إن الأصل في الطب هو القلب، وعندما تفحص أي عضو من أعضاء الجسد، فإنك يجب أن تعلم كثيرا عن القلب»، وهذه المقولة تأكيد على أهمية الفحص المنهجي والربط بين الصحة العامة ووظيفة الجهاز الدوري، وهو أساس متقدم يسبق عصره في الفهم السريري.

نظام «ماعت» عقد اجتماعي للاندماج
على النقيض من العديد من الحضارات القديمة، عززت مصر القديمة نموذجاً مجتمعيا فريدا وشاملا تجاه الأفراد ذوي الإعاقة، وهذا الموقف كان نتيجة مباشرة لمعتقدات فلسفية ودينية عميقة، تتركز حول مفهوم «ماعت» – النظام الكوني والتوازن والعدالة.
كان ينظر إلى تهميش أو إقصاء أي فرد من أفراد المجتمع على أنه إخلال بهذا النظام المتوازن، وهو ما يعتبر إساءة للإله الخالق نفسه، وهذا الأساس الفلسفي أقوى من أي تشريع قانوني، وتتضح هذه الالتزامات الأخلاقية في أدبيات الحكمة، مثل تعاليم أمنموبي التي نصت على أوامر أخلاقية صارمة، مثل: «لا تسخر من أعمى، ولا تهزأ من قزم، ولا تحتقر الرجل الأعرج».
هذه الضرورة الأخلاقية هي ما يفسر الدافع وراء الابتكارات الطبية المتقدمة مثل الأطراف الصناعية، حيث يقتضي المنطق أن يخصص المجتمع موارده لدعم ورعاية هؤلاء الأفراد.
تثبت الاكتشافات الأثرية أن المصريين القدماء كانوا الرواد الأوائل في اختراع الأطراف الصناعية على مستوى العالم،
صناع الأطراف والأصابع الوظيفية
تثبت الاكتشافات الأثرية أن المصريين القدماء كانوا الرواد الأوائل في اختراع الأطراف الصناعية على مستوى العالم، وتعود أقدم الأدلة على الأطراف الوظيفية المؤرخة إلى ما قبل 600 ق.م، وتعد الأطراف التعويضية لأصابع القدم الكبيرة في مصر القديمة أمثلة حاسمة على تقدم الهندسة الطبية المصرية، حيث أظهرت التحليلات العلمية الحديثة أن هذه الأطراف لم تُصنع لأغراض جمالية أو جنائزية فحسب، بل كانت أجهزة وظيفية حقيقية.
وأثبتت دراسة أجرتها الدكتورة جاكي فينش من جامعة مانشستر على نسختين طبق الأصل من طرفين مصريين قديمين – أحدهما إصبع القاهرة الكبير – أنهما كانا وظيفيين، حيث تم اختبار هذه النسخ على متطوعين فقدوا إصبع القدم الكبير باستخدام تقنيات تحليل المشي.
وأكدت النتائج أنّ كلا الطرفين كانا قادرين على تلبية معايير الأجهزة التعويضية الحقيقية حيث قاوما قوى الجسم وساعدا مرتدييهما على المشي بكفاءة. إن هذا الابتكار يشير إلى أن الأطباء المصريين كانوا يتبعون مساراً تطورياً متنوعاً في الهندسة التعويضية، مصمماً لتلبية احتياجات البتر المختلفة.
إرث القبول الذي لا يتلاشى
يمثل الطب المصري القديم إرثا حضاريا فريدا، امتد ليشمل الأساس الأخلاقي والاجتماعي الذي سمح لهذه التقنيات بالازدهار لخدمة الإنسانية.
ووصف الطب بأنه «مهنة مقدسة» ووجود نظام مؤسسي تعليمي (بيوت الحياة) يوضح أن العلم كان مدعوما ومشرعا من قبل الدولة والمؤسسة الدينية، والعبقرية المصرية تكمن في ربط هذا الابتكار بفلسفة «ماعت» التي فرضت الاندماج الاجتماعي ورعاية الفرد، مما دفع الأطباء نحو تطوير أدوات تعويضية وظيفية.
وفقا لما أكده الدكتور مجدي يعقوب، يظل الطب المصري القديم مصدرا للإلهام، لكونه يمثل أعظم هدية إنسانية قدمتها الحضارة للعالم: «العناية بالإنسان أي إنسان». في عصرنا الحالي، يذكرنا النموذج المصري أن الابتكار الطبي الحقيقي يجب أن يكون مدعوماً بعهد اجتماعي عميق يضع صحة وكرامة الفرد في المقام الأول.


.png)















































