لم تستطع الإعاقة أن تقيد روحها، ظلت فراشة طليقة تحلق فوق خشبة المسرح، تدور بخفة راقصة باليه أمام جمهور الأوبرا، ومع مرور الأيام أعاد القدر رسم المشهد، فاستبدلت الأجنحة بثقل الحديد، وحوّلت خطوات الرقص إلى وقفات صلبة على منصة رفع الأثقال.
نادية محمد فكري، البطلة المصرية صاحبة الميدالية البرونزية في رفع الأثقال بالدورة البارالمبية باريس 2024، والتي ولدت في أسرة يلفها الحب والدفء رغم كثرة عدد إخوتها من ناحية الأب، كانت نادية الطفلة المدللة وسط إخوتها، طفلة طبيعية تتحرك وتضحك وتملأ البيت مرحًا، حتى أخذت تطعيم العام ونصف، وبدأت بعدها حكاية لم تكن في الحسبان، اشتعلت في جسدها الصغير حرارة شديدة، انتهت بشلل سجن طفولتها مبكرا، وقيد جسدها للأبد.

تحكي نادية عن أهم محطات رحلتها لـ”جسور” تقول أمي لم تتهاون في علاجي مطلقًا، ركضت بين الأطباء والمستشفيات، طرقت كل الأبواب، حملتني على قلبها قبل كتفها، كان الشلل عنيدًا، غادر معظم الجسد لكنه ترك بصمة مؤلمة في ساقي اليسرى وضعفًا في عضلات القدم اليمنى، ومع ذلك لم يعرف اليأس طريقًا إلى قلبي الصغير، كنت طفلة عنيدة، صاحبة رأي وشخصية لافتة، وكأن الإعاقة منحتني ملامح أبرزت تميزي.
تكمل نادية حديثها: “كانت أمي ترى في أميرتها المدللة، حتى أن الجيران اعتادوا مناداتي بـ”الأميرة”، وعندما جاء وقت المدرسة، فضّلت أمي أن أذهب لمدرسة داخلية للأطفال ذوي الإعاقة، لأستكمل علاجي الطبيعي بجانب التعليم، وكان الاختيار موفقًا فقد منحتني التجربة الاعتماد على النفس والانضباط، لكنها زرعت أيضًا فيّ عنادًا مستمرًا وخجلًا من المجتمع.
كان في قلبي حلم يراودني بأن أصبح راقصة باليه، تتمايل فوق خشبة المسرح كفراشة حرة، لا يقيدها كرسي، ولا تكبلها إعاقة، لكن الحلم بات مستحيلًا، ولأن أمي لا تكف عن دعمي فبدأت معي رحلة السباحة، وهناك لمع اسمي وشاركت في بطولات عديدة، حتى انضممت لمعسكر المنتخب، لكن حلم البطولة تبخر في لحظة حين تم استبعادي، فتجرعت مرارة الخيبة من جديد.

مستطردة حديثها بعينين لامعتين يملؤهما التحدي والفخر: “لم أستسلم، أكملت دراستي ومضيت في طريقي بأحلام جديدة، وفي أحد الأيام سمعت عبر الراديو عن فتاة تمارس رياضة رفع الأثقال البارالمبية، أثار الأمر فضولي، وتوجهت إلى النادي القريب من منزلي، حيث استقبلتني الفتاة والمدرب، وفي الاختبار الأول رفعت 60 كجم، فذهل المدرب وأخبرني أن لي شأنًا كبيرًا إن أكملت في اللعبة، ومن هنا بدأت رحلة جديدة توجتني بثلاثة أعوام من بطولات الجمهورية والكأس، حتى جاءت الفرصة الكبرى وشاركت ببطولة أوروبا المفتوحة 1997، حيث حصدت الميدالية الفضية، لتفتح أمامي الباب أمام سلسلة من البطولات الدولية.
وفي أولمبياد سيدني 2000 كان الحدث الأجمل في رحلتي حيث إلتقيت برفيق العمر الكابتن صلاح عطا، لاعب الكرة الطائرة جلوس، كان الإعجاب منذ اللقاء الأول حيث التشابه في الرحلة والروح، وكانت الخطبة بعد العودة مباشرة، والزواج بعد أولمبياد أثينا 2004، ثم وهبنا الله بمحمد عام 2005، وإياد عام 2010، وبينهما كان أولمبياد بكين 2008.
ولأن وتيرة الحياة ليست ثابتة، وتحدياتها لا تنتهي، حمل عام 2015 أقسى خبر في حياتي، وهو رحيل أمي، سندي الأول، وصديق رحلتي، ومرآتي التي لا أراني فيها إلا جميلة.

وفي أوج حالات الحزن ذهبت إلى أولمبياد ريو دي جانيرو ولم أحصل على ميدالية وقتها، وتوالت بعدها الكبوات والإخفاقات وفكرت كثيرًا في الاعتزال، ولكن تشجيع زوجي كان حائط الصد الأول لحالة الاستسلام، ليس هذا فقط، بل آثرني على نفسه، وبعدما عاد من أولمبياد طوكيو 2021 أعلن اعتزاله الدولي حتى يتفرغ لأبنائنا، وخاصة أنهم كانوا في مراحل تعليمية مصيرية، محمد في الثانوية العامة، وإياد العام التالي في الإعدادية.
تقول نادية: قضيت ثلاث سنوات في المعسكر ما بين التدريب والقلق على أولادي ومستقبلهم، والخوف من الفشل وضياع الوقت والجهد، لكن بفضل الله وكرمه تكلل مجهودنا جميعًا بالنجاح، وحققت حلمي الذي تأخر كثيرًا لكنه كان حيًا بداخلي، حصلت على الميدالية البرونزية في رفع الأثقال البارالمبية لعام 2024، ووقفت على البوديوم ولم أشعر بنفسي إلا وأنا أطلق زغرودة عالية، انطلقت وهي تحمل كل تاريخ الألم والفقد والخذلان والوجع، وتمتزج بالفرح والفخر والنصر معًا.