قبل 55 عامًا ولدت طفلة في صعيد مصر لا تشبه أحدًا، بجسد أقرب إلى كرة صغيرة يطل منها وجهها فقط، بينما أطرافها ملتفة كأغصان نبات متسلق، لا تنمو إلا عند الكف وأصابع اليد،

في الوقت الذي لم يعرف الأهل كيف سيعيش هذا الكائن الصغير،  اعتبرتها أمها كنزًا ساقه الله إليها وأطلقت عليها اسم «دهب».

في نجع ساحل دراو بمحافظة قنا نشأت «دهب سعد الدين» في بيئة خشنة؛ طرق ضيقة متعرجة غير ممهدة، وتضاريس أراض زراعية صعبة، تضاعف من إعاقتها، وتحكم عليها بالعزلة الدائمة داخل غرفتها، لكن دهب رفضت الاستسلام وقررت الانتصار على الجغرافيا لتصنع تاريخها الخاص.

تقول دهب لـ«جسور»: في العاشرة من عمري تعلمت الزحف على يدي نحو الحقول المجاورة، لأجمع بقايا المحاصيل، وأقتات مما يسقط من نبات الفول والعدس والحمص في موسم الحصاد، كما يفعل غيري من الصغار.

وفي موسم البلح، كنت أستيقظ قبل الشمس أشق الطرق الوعرة بين الزروع لألتقط ما يتساقط من النخيل على الأرض، وأعود به إلى البيت في رحلة يومية شاقة، وعلى مدار شهور أكون قد جمعت جوالًا صغيرًا أبيعه في نهاية الموسم وأحصل على ثمنه خالصًا.

حين تصنع الموهبة معجزة

في الخامسة عشرة من عمرها بدأت موهبتها في خياطة ملابس الأطفال حديثي الولادة بيديها الصغيرتين، وأتقنت فن الحياكة، ما جعل الأمهات الحوامل ضيوفًا دائمات عليها، لكن موهبتها الكبيرة كانت في الطهي، تقول دهب: «لدي موهبة ابتكار وصفات لأطعمة لا تستطيع سيدة في النجع أن تتوصل إليها، والجميع يميز رائحة طبيخي الذي لا يستطيع أحد مقاومته».

أستاذة الطهي في النجع

قبل دخول التلفاز إلى بيوت النجع، كان اسم دهب يتردد على ألسنة أهالي القرية، وعند خطوبة أي فتاة، تدفع بها أمها إلى دهب لتتعلم منها أسرار الطهي، وتنسيق أصناف الطعام وابتكار النكهات الجديدة.

أما في مناسبات القرية، التي يخرج فيها الرجال بصواني الطعام، فقد كان الجميع يتسابق للجلوس حول صينية العامرة بالأصناف الشهية، لتعود الأطباق فارغة، ومعها عبارات الشكر والاستحسان.

اشتهرت دهب بوصفاتها الخاصة، مثل صينية الشعرية بالفريك واللحم، والبطاطس المحمرة باللبن، إضافة إلى أنواع مخللات تفردت بها، حتى إن أهل القرية كانوا يعرفون طعامها إذا تذوقوه في غير بيتها، ولسان حالهم يقول: “هذا من مطبخ دهب”.

حارسة الذكريات

لم تغادر دهب قريتها يومًا، لم تركب سيارة، ولا تعرف صخب المدن، عالمها ظل محصورًا في حدود القرية، لكنها حولت هذا الحيز الضيق إلى مساحة شاسعة من الإبداع، وجدت طريقًا للحفاظ على اللحوم قبل ظهور الثلاجات، فقامت بتحميصها وتجفيفها حتى تبقى صالحة لأسابيع طويلة، وتتقن إعداد الطعام التقليدي مثل الملوخية والأجبان الصعيدية ولكن بطعم مختلف لا يقاوم.

عبادة وزهد

يقول شقيقها الشيخ سراج سعد الدين – خطيب وإمام بالأوقاف: لم يقتصر تميز دهب على موهبتها في الطهي، بل كانت مثالًا للزهد والتقوى، لم تتعلم في مدرسة، ولم تعرف شيئًا عن الحياة خارج قريتها، لكنها عرفت طريقها إلى الله، لم تؤخر صلاة عن وقتها، وتصوم الاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، كما تصوم رجب وشعبان ورمضان على التوالي، وتقوم الليل وتواظب على أذكارها وأورادها، عابدة راضية بما قسم الله لها، ترى في ابتلاء جسدها بابًا إلى القرب من خالقها.

نصف قرن من العطاء بلا مقابل

تجاوزت دهب الخامسة والخمسين من عمرها، ما زالت دهب حاضرة في حياة إخوتها الذين لا يأكلون إلا من يديها، لكنها حُرمت دون سبب من معاش ذوي الإعاقة، وكأن الله أراد أن يبقى عطاؤها محض فضل منه وحده.

أمنية مؤجلة

لا تزال لدهب أمنية واحدة تراودها: أن ترى مكة المكرمة، ولو لمرة واحدة، لتؤدي عمرة حلمت بها طيلة حياتها، أمنية صغيرة، لكنها تختصر حكاية إنسانة صنعت مجدًا في حدود القرية، وخلدت اسمها في قلوب أهلها، لتبقى دهب دليلاً على أن الإرادة وحدها قادرة على تحويل العجز إلى معجزة.