د. زاهي حواس يكتب: مكانة ذوي الهمم عند الفراعنة

د. زاهي حواس يكتب: مكانة ذوي الهمم عند الفراعنة

المحرر:
د. زاهي حواس

لم تتقدم مصر القدیمة على سائر الأمم وتبني حضارة إنسانیة عظیمة من فراغ، إن حضارة الفراعنة العظام قامت في الأساس على مجموعة من المبادئ الأخلاقیة، التي اتخذها المصریون القدماء قانونًا ليس فقط لحياتهم، ولكن لما بعد مماتهم.

سمي هذا القانون بالماعت، الذي یعني الحق والعدل والنظام. ویكفي أن نعلم أن إیمان المصریین بأن هذه القواعد الأخلاقیة هي القواعد المثلى لبناء حیاة مستقیمة كان عمیقًا حتى إن لم يلتزم به كل أفراد المجتمع وبعض حكامه في بعض الفترات، التي أرجعها المصریون أنفسهم إلى اختلال میزان الماعت وسیطرة قوى الشر على الخیر.

أدلة تاريخية على مكانة ذوي الهمم عند المصريين القدماء

فكان السبیل الوحید لتصحیح الأوضاع وانضباط الكون مرة أخرى هو العودة إلى الماعت والتمسك بمبادئها، ومن هنا كان المصريون القدماء لا يفرقون بين البشر.

ففي نظرهم أن كل البشر هم من خلق الإله الخالق الذي صورهم جمیعًا على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأجناسهم.  والدليل على ذلك أن كُتب الموتى تعترف بأن الجنة ليست فقط حكرًا على المصريين، وإنما ينالها الخيرين ممن خلقهم الإله سواء كانوا مصریین أو أفارقة أو آسیویین أو لیبیین وتلك هي الأجناس الأربعة، التي عرفها المصري القدیم ونجدهم مصورين على جدران المقابر في وادي الملوك وهم یسیرون جنبًا إلى جنب نحو قاعة المحاكمة في العالم الآخر.

وبنفس المفهوم الراقي كان المصري القدیم یعتقد بأن الإله الخالق یصدر أوامره إلى خنوم الجالس على عجلة الفخراني لیشكل المولود الجدید ذكرًا كان أم أنثى، طویلًا كان أم قصیر القامة (قزم)، سلیم البنیة والحواس أم من أصحاب الهمم! كان كل شيء عند المصري القدیم یعود إلى حكمة الإله الخالق، ولذلك كان التسامح والقبول والرضا من أساسیات العبادة والطاعة.

لم یكن هناك أي عقاب مجتمعي لمَن ولد أعمى لا یرى، فقد تعرف المصریون منذ أقدم عصورهم أن اختفاء حاسة تجعل حواس أخرى أكثر قدرة ومهارة، فمَن فقد البصر عنده مهارة الحفظ جبارة وكذلك لاحظوا أن

كثیرًا منهم یتمتع بحلاوة الصوت وحسن تذوق الموسیقى. ولا عجب أن نرى معظم المغنیین في مصر القدیمة من فاقدي البصر، وهؤلاء تمتعوا بمكانة اجتماعیة كبیرة، ونجد صورهم -وهم ینشدون الأغاني على أعذب الألحان- عاملًا مشتركًا في مناظر الحیاة الیومیة على جدران المقابر. وكان المغني فاقد البصر هو المفضل لدخول بیوت المصریین في الاحتفالات والولائم الخاصة، وذلك لأنه لن یسبب أي حرج لأهل المنزل من سیدات وحریم من باب الاحتشام والتحفظ الموجود عند الفراعنة.

كيف نجح الفراعنة في دمج أصحاب الهمم؟

ونقیس على ذلك كل مَن ولد من أصحاب الهمم كان المجتمع یتقبله ویدمجه ویوظفه بما یتلاءم مع وضعه وظروفه الخاصة. ومثال على ذلك نرى على جدران المقابر نماذج عدیدة من أصحاب الهمم ومنهم مَن یعمل في رعي الماشیة، ومنهم مَن یعمل في شون الغلال، وآخرون یعملون في الصناعات التي تلائم مهاراتهم.

وفي مصر القدیمة، تمتع (الأقزام) بمكانة اجتماعیة مرموقة ومحترمة بشكل ملحوظ، على عكس العدید من الحضارات القدیمة الأخرى، حیث اعتبر المصریون القدماء الأقزام هبات إلهیة وارتبطوا بالآلهة، خاصة الإله بس والإله بتاح. كان یتم توظیفهم في مناصب مهمة في البلاط الملكي والعائلة المالكة.

وكانوا أمهر الصاغة وصناع الحلي لدقة أناملهم ومهاراتهم في صناعة المجوهرات، وعملوا كمربیین للأطفال الملكیین، وحراس للمجوهرات الملكیة، وعملوا كذلك في مجال الترفیه والرقص، وامتهنوا العدید من الحرف الیدویة، وتظهر النقوش والتماثیل الأقزام في أوضاع محترمة.

ومنهم مَن تزوج من نبیلات من البیت المالك مثل القزم الشهیر سنب، ودفن بعض الأقزام في مقابر متمیزة قرب الأهرامات، مما یدل على مكانتهم الرفیعة، وقد كشفت عن مقبرة أحدهم من الدولة القدیمة بجوار الأهرامات ویدعى بر ني عنخو، وكان من ضمن ألقابه «مسلى الملك» «الذي یسعد قلب مولاه».

ولقد ورد ذكر الأقزام في النصوص المصریة القدیمة بألقاب تشریفیة. لقد كان الاعتقاد السائد أن الأقزام یجلبون الحظ السعید ویتمتعون بحمایة خاصة من الآلهة، مما منحهم مكانة فریدة في المجتمع المصري القدیم.

د. زاهي حواس

 عالم المصريات ووزير الآثار المصري الأسبق

المقالة السابقة
مركز فنون أمريكي يطلق برنامجًا لتمكين الفنانين ذوي الإعاقة

وسوم

الإعاقة (3) الاستدامة (33) التحالف الدولي للإعاقة (34) التربية الخاصة (2) التشريعات الوطنية (33) التعاون العربي (33) التعليم (4) التعليم الدامج (4) التمكين الاقتصادي (3) التنمية الاجتماعية (33) التنمية المستدامة (3) التوظيف الدامج (32) الدمج الاجتماعي (31) الدمج الجامعي (3) العدالة الاجتماعية (3) العقد العربي الثاني لذوي الإعاقة (31) الكويت (5) المتحف المصري الكبير (4) المجتمع المدني (31) المجلس الأعلى لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (4) المجلس القومي للأشخاص ذوي الإعاقة (4) الوقائع الإخباري (2) تكافؤ الفرص (32) تمكين (2) حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (31) حقوق الإنسان (3) حقوق ذوي الإعاقة (3) دليل الكويت للإعاقة 2025 (30) ذوو الإعاقة (12) ذوو الاحتياجات الخاصة. (31) ذوي الإعاقة (9) ذوي الهمم (5) ريادة الأعمال (33) سياسات الدمج (33) شركاء لتوظيفهم (34) قمة الدوحة 2025 (35) كود البناء (36) لغة الإشارة (2) مؤتمر الأمم المتحدة (36) مبادرة تمكين (3) مجتمع شامل (36) مدرب لغة الإشارة (37) مصر (12) منظمة الصحة العالمية (37) وزارة الشؤون الاجتماعية (2)