ذكرى ميلاد أم كلثوم.. هل عانت كوكب الشرق من إعاقة بصرية خفية؟

ذكرى ميلاد أم كلثوم.. هل عانت كوكب الشرق من إعاقة بصرية خفية؟

المحرر:
ذكرى ميلاد أم كلثوم

يحتفل العالم العربي في هذه الساعات بمناسبة فنية وتاريخية استثنائية، وهي ذكرى ميلاد أم كلثوم، السيدة التي وحدت العرب من المحيط إلى الخليج. في الواقع، ورغم الجدل التاريخي المعتاد حول يوم مولدها الدقيق، إلا أن السجلات الرسمية والاحتفالات تؤكد أنها ولدت في ديسمبر.

نرى أم كلثوم دائمًا في هذه الذكرى في صورة المرأة القوية، الشامخة، التي تقف لساعات تغني للحب والأطلال. لكن ما نغفله في ذكرى ميلاد أم كلثوم هو الجانب الإنساني المؤلم لسيدة كانت تخفي إعاقتها خلف أشهر قطعتي إكسسوار في تاريخ الغناء العربي، النظارة السوداء والمنديل.

ذكرى ميلاد أم كلثوم

قبل الدخول في التفاصيل الطبية، يجب حسم الجدل حول توقيت الاحتفال بهذه المناسبة. تزامنا مع ذكرى ميلاد أم كلثوم، تشير السجلات المدنية الرسمية في قريتها طماي الزهايرة إلى أن قيد ميلاد فاطمة إبراهيم السيد البلتاجي تم بتاريخ 31 ديسمبر 1898. على الرغم من أن بعض المصادر تشير لتواريخ أخرى، إلا أن التاريخ الرسمي المعتمد في الأوراق الثبوتية هو نهاية ديسمبر. لذلك، يتجدد الحديث اليوم في ذكرى ميلاد أم كلثوم عن المعجزة الغنائية التي ولدت لتبقى.

وارتبطت صورة كوكب الشرق في ذهن الجماهير، خاصة عندما نستحضر صورها في ذكرى ميلاد أم كلثوم، بتلك النظارة السوداء الداكنة. ظن الكثيرون وقتها، وما زالوا، أنها كانت نوعا من الوقار أو مسايرة لموضة العصر، أو ربما لإخفاء علامات التقدم في السن. لكن الحقيقة التي يجب توضيحها في ذكرى ميلاد أم كلثوم هي أن الأمر كان أبعد ما يكون عن الرفاهية. كانت هذه النظارة جهازا تعويضيا طبيًا لا غنى عنه، وبدونها كانت الست مهددة بفقدان بصرها تماما.

نظارة أم كلثوم واحدة من مفردات مظهرها المميز طوال تاريخها
نظارة أم كلثوم واحدة من مفردات مظهرها المميز طوال تاريخها

وبدأت القصة المرضية تظهر بوضوح في الخمسينيات، وهي فترة محورية نستذكرها في ذكرى ميلاد أم كلثوم. استنادا إلى مذكرات أطبائها وتقارير الصحف في ذلك الوقت (مثل الأهرام والمصور)، أصيبت بمرض جريفز Graves’ Disease. ببساطة، هو اضطراب مناعي شرس يؤدي إلى فرط نشاط الغدة الدرقية بشكل خطير. لم يؤثر هذا المرض على قلبها وأعصابها فحسب، بل وجه ضربته القاسية إلى عينيها، مسببا ما يعرف طبيا بـ اعتلال العين الدرقي.

جحوظ العينين وخطر العمى

أدى نشاط الغدة المفرط إلى تضخم الأنسجة والعضلات خلف العين، وهو ما شكل خطرا داهما. نتج عن ذلك جحوظ واضح في العينين، وهي حقيقة طبية لا يمكن تجاهلها عند الحديث في ذكرى ميلاد أم كلثوم. لم تكن المشكلة جمالية فقط، بل كانت وظيفية وخطيرة جدا. حيث يؤدي الجحوظ إلى عدم قدرة الجفون على الانغلاق الكامل، مما يعرض القرنية للجفاف والتقرح.

حذر الأطباء أم كلثوم من أن تعرض عينيها المكشوفتين للهواء أو الغبار قد يؤدي لتلف القرنية وفقدان البصر. حسب موقع Cleveland Clinic.

طالع: معرض «أم كلثوم» بدار الكتب المصرية يفتح أبوابه بإبداعات ذوي الإعاقة

من الأعراض الملازمة لهذا المرض ما يسمى برهاب الضوء. بالنسبة لأي شخص عادي، هذا يعني ضرورة ارتداء نظارة شمسية. لكن بالنسبة لمطربة تقف تحت أضواء كاشفة  قوية جدا، كان الأمر بمثابة تعذيب يومي. كانت الأضواء القوية تسبب لها ألما لا يطاق في عينيها، وسيلانا مستمرا للدموع. من هنا، جاء القرار الطبي الصارم بضرورة ارتداء نظارة سوداء سميكة ومقعرة الأطراف، لتصبح جزءا لا يتجزأ من إطلالتها التي نراها في كل ذكرى ميلاد أم كلثوم.

الإكسسوار الثاني الذي حير الملايين، ونراه في كل مقاطع الفيديو التي تعرض في ذكرى ميلاد أم كلثوم، هو المنديل الذي لا يفارق يدها. فسره البعض بأنه جزء من الأناقة، أو وسيلة للتعبير عن الانفصال عن الواقع والتأثر بالطرب. لكن الطب له رأي آخر تماما. يعد التعرق الشديد  خاصة في راحة اليد، أحد الأعراض الكلاسيكية لفرط نشاط الغدة الدرقية. كانت يدا أم كلثوم تتصببان عرقا باردا وغزيرا طوال مدة الوصلة الغنائية، بسبب خلل الهرمونات.

رجفة اليدين و رحلة العلاج الأمريكية

إضافة للتعرق، يسبب مرض غريفز توترا عصبيا ورجفة في الأطراف. كانت أم كلثوم تشعر ببرودة ورعشة في أطرافها وهي تواجه الجمهور، رغم خبرتها الطويلة ومكانتها. لذلك، كانت تستخدم المنديل لتضغط به على يدها بقوة وعنف أحيانا. ساعدها هذا الضغط الميكانيكي على تقليل حدة الرعشة، وتجفيف العرق المستمر الذي كان يسبب لها حرجا بالغا. بذلك، كان المنديل أداة مساعدة للسيطرة على أعراض إعاقتها البصرية، وهو ما نستلهمه من قوتها في ذكرى ميلاد أم كلثوم.

لم تستسلم أم كلثوم لهذا المرض بسهولة، بل سعت للعلاج في أكبر المراكز العالمية. سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية للعلاج في مستشفى البحرية الأمريكية ببيثيسدا. هناك، نصحها كبار الأطباء بإجراء جراحة لاستئصال جزء من الغدة الدرقية. لكن كان هناك خطر كبير وحقيقي على أحبالها الصوتية الحساسة والقريبة جدا من الغدة. فضلت أم كلثوم الحفاظ على صوتها وتحمل ألم عينيها وجسدها، لتظل تغني لنا ونحتفل بها في كل ذكرى ميلاد أم كلثوم. حسب كتاب «صوت مصر: أم كلثوم والغناء العربي». للباحثة والأكاديمية بجامعة هارفارد فرجينيا دانيلسون.

الإعاقة الخفية وتعريف جديد للست

ما عاشته أم كلثوم يندرج اليوم تحت مسمى الإعاقات الخفية. فالشخص يبدو طبيعيا ويمارس عمله ببراعة، لكنه يبذل جهدا مضاعفا للسيطرة على جسده المتمرد. تخيل أن تقف لمدة 3 أو 4 ساعات متواصلة وأنت تعاني من خفقان قلب سريع، وعينين ملتهبتين ترفضان الضوء، ويدين ترتجفان وتتعرقان. هذا الصمود الأسطوري يجعلنا نعيد تقييم إنجازها الفني كإنجاز إنساني وبدني خارق نستحضره في ذكرى ميلاد أم كلثوم.

رغم مكانتها العالية، لم تسلم أم كلثوم من التعليقات الجارحة حول شكل عينيها قبل الالتزام بالنظارة. في أحد المواقف الموثقة تاريخيا، التقط لها مصور صورة قريبة جدا أظهرت جحوظ عينيها بشكل اعتبر مخيفا وقتها. حزنت أم كلثوم بشدة وطلبت منع نشر الصورة فورا. كانت النظارة أيضا درعا نفسيا يحميها من نظرات الشفقة أو الاستغراب التي قد تراها في عيون الجمهور، مما قد يؤثر على ثقتها بنفسها. لذلك، نحتفل في ذكرى ميلاد أم كلثوم بامرأة حافظت على كبريائها حتى النفس الأخير.

أكد المقربون منها، وعلى رأسهم طبيبها وزوجها الدكتور حسن الحفناوي (أستاذ الأمراض الجلدية) وابنه أيضا الذي سماها أمه الثانية، معاناتها الصامتة مع المرض. في لقاءات تلفزيونية نادرة، أشار الحفناوي إلى أن أم كلثوم كانت تتحامل على نفسها بشكل لا يصدق من أجل فنها. أوضح أن جحوظ العينين كان يسبب لها صداعا مزمنا وجفافا مستمرا، لكنها كانت ترفض إلغاء أي حفل خوفا على مشاعر جمهورها. تلك هي التضحية التي نخلدها اليوم في ذكرى ميلاد أم كلثوم.

لماذا رفضت الجراحة التجميلية؟

اقترح بعض الأطباء عليها إجراء جراحات تجميلية لتخفيف جحوظ العين وسحب الدهون المتراكمة خلفها. لكن في ذلك الوقت (حقبة الستينيات)، لم تكن الجراحات بالدقة والأمان الحالي. خشيت أم كلثوم أن تؤثر أي عملية في وجهها على مخارج الألفاظ أو تعابير وجهها أثناء الغناء. اختارت أن تعيش بمرضها وتواجهه بشجاعة بدلا من المخاطرة بأداتها الفنية التي تسعد الملايين، وهو قرار شجاع نحييه في ذكرى ميلاد أم كلثوم.

المدهش في هذه القصة الإنسانية هو كيف حولت أم كلثوم الضرورة الطبية القهرية إلى علامة تجارية للأناقة. أصبحت نظارتها السوداء المقعرة رمزا للوقار قلدته نساء العالم العربي لسنوات. لم يعرف المقلدون أنهم يرتدون وصفة طبية لمريضة غدة درقية تعاني من الألم. هذا يثبت ذكاءها الفطري في تحويل نقاط الضعف والإعاقة إلى نقاط قوة وتميز بصري، وهو درس ملهم نتعلمه في ذكرى ميلاد أم كلثوم.

شموخ الألم في ذكرى ميلاد أم كلثوم

في الختام، ونحن نحيي ذكرى ميلاد أم كلثوم ال 127، يجب أن نرى هذه السيدة العظيمة بعيون جديدة تماما. لم تكن مجرد مطربة موهوبة حباها الله بصوت ملائكي، بل كانت امرأة قوية قهرت المرض والألم المزمن. عانت من إعاقة بصرية ووظيفية هددت مسيرتها، لكنها احتمت خلف نظارة ومنديل لتكمل رسالتها الفنية. حقا، لم تكن النظارة لحجب الشمس، بل لحجب دموع الألم عن عيون المحبين الذين يحتفلون اليوم بـ ذكرى ميلاد أم كلثوم.

المقالة السابقة
الولايات المتحدة تحقق في سرقة 300 مليون دولار مخصصة لدعم ذوي الإعاقة
المقالة التالية
اختتام الموسم الثامن لبرنامج «المواهب الذهبية» لذوي الهمم في مصر