جرت العادة أن يتم توفير سماعات للأوصاف الصوتية، عند تقديم عروض «الباليه الملكي» البريطاني، حتى يتمكن الجمهور من متابعة ما يجري على خشبة المسرح، لكن في أحدث عرض حدث ما يمكن وصفه بالنقلة النوعية.
توفير السماعات يمكن جميع الحضور من سماع – بما فيهم غير المبصرين – تلك الأوصاف ضمن عمل مسرحي مبتكر، يستكشف كيف يمكن للعمى أن يعيد تشكيل استجاباتنا للحواس والصوت والسرد.
فنانة كفيفة تقود التجربة
الفنانة الكفيفة «ديفون هيلي» تتعاون مع السير «وين ماكغريغور» وعدد من مصممي الرقص الآخرين، إلى جانب الملحن «ماكس ريختر»، في إعداد عرض جديد بتكليف من «الباليه الملكي»، سيُعرض لأول مرة في 12 نوفمبر المقبل، بالتزامن مع «اليوم العالمي للباليه» كما أُعلن اليوم الخميس.
في أعمالها، تنطلق «هيلي» من رغبة في إظهار كيف يمكن للإعاقة والعمى أن يوفّرا إدراكًا بديلًا للواقع، إدراكًا يمكن للجميع تجربته، ويتوسط الأداء على المسرح عنصرٌ محوري: «الوصف الصوتي الغامر» الذي نسجته هيلي بذكاء داخل النسيج الموسيقي للعمل.
باليه متاح للجميع
تقول دار الأوبرا الملكية في بريطانيا إن شعارها هو «تقديم باليه وأوبرا بمستوى عالمي للجميع»، ويضيف «كيفن أُهير»، مدير فرقة الباليه الملكي: نحن نركّز على الإتاحة الراديكالية – بدعوة الفنانين والجمهور إلى اختبار الباليه بطرق جديدة ومتحولة.
العمل الجديد تُشرف عليه مجموعة من مصممي الرقصات: «تايلر بيك»، «بيم مالكومسون»، و«ريبيكا مايلز ستيوارت»، إلى جانب ماكغريغور – وكلٌّ منهم يتعاون بشكل مباشر مع هيلي.
إعادة تعريف الوصول والفن
قال روبرت بينيه، القيّم على هذا المشروع: «تأسس اليوم العالمي للباليه على مبدأ الإتاحة، وبعد مرور عقد على إطلاقه، نحن الآن نوسّع هذا المفهوم، لنفكر في كيفية مساهمة وجهات نظر ذوي الإعاقة في تشكيل شكل الفن ذاته، ودعوة جماهير من جميع القدرات والخبرات إلى اختبار الرقص بطرق جديدة.
وأضاف أنه بعد تجاربه مع «هيلي» في كندا وأستراليا، لاحظ أن كثيرًا من الأشخاص المبصرين الذين استمعوا إلى وصفها الصوتي شعروا بأنه ساعدهم على فهم الرقص، ذلك الفن الذي قد يبدو مجرّدًا جدًا للبعض.
رقصة مستوحاة من الشمس
في أحد العروض الثنائية (دوِيت)، سيرافق راقص الباليه «ليو ديكسون» الراقص الهاوي «تاكاشي كيكوتشي»، الذي يعاني من إعاقة بصرية منذ الولادة، وكان كيكوتشي يعتقد لفترة طويلة أن الباليه «يقتصر على المبصرين»، لكنه أدرك لاحقًا أنه «يتضمن الكثير من الإحساس والمشاعر»، وأنه ينشط الحواس المرئية وغير المرئية.
تجربة شخصية عاشها كيكوتشي – حين ضلّ طريقه ذات يوم واعتمد على حرارة الشمس ليهتدي إلى منزله – ألهمت رقصة ثنائية عبّر فيها ديكسون عن «دفء الشمس وهو يحيط بكيكوتشي بينما يتحركان معًا»، بحسب المصممة مالكومسون.
يقول كيكوتشي: «كان الوقت بعد الظهر، وشعرت أن الشمس يجب أن تكون مشرقة من جهة الغرب، فوجهت وجهي نحو أشعتها، رغم أني لا أراها، وكنت أشعر بحرارتها… واصلت السير باتجاه الغرب… حتى وصلت إلى البيت، كانت الشمس دليلي، وهي رمز جميل، ومن هنا نشأت القصة.
الإعاقة كقوة إبداعية
هيلي وهي أستاذة مساعدة في دراسات الإعاقة بجامعة تورونتو، تقول: «العمى ودور الشخص الكفيف يدعوان إلى علاقة ديناميكية مع الحركة، تُشبه كثيرًا علاقة الراقص المحترف بجسده وحركته.
وأضافت أنها تسعى – من خلال تفاعلها مع الراقصين – إلى نقل ما «يختبرونه في أجسادهم، وهو أمر لا يمكن الوصول إليه عبر البصر فقط».
وتتابع: أتحدث مع الراقصين لأفهم كيف يشعرون في أجسادهم، أين يقع تنفسهم، ما الذي يفكرون فيه، كيف تشعر عضلاتهم.
من خلال تعاونها مع المصممين في الرقص، والأزياء، والإضاءة، والديكور، والصوت، تؤكّد هيلي أن إدراك الكفّ البصري وإبداعه حاضر دائمًا، بينما يطور المبصرون والكفيفون علاقة قائمة على حب الحركة والرقص
وتقول: هذا الحب والإبداع هو ما أحاول أن أنسجه في الوصف الصوتي الغامر، إنه تعاون بين الحواس، تقوده الإعاقة البصرية.
دعوة إلى ما هو غير مرئي
وتختتم هيلي حديثها قائلة: رغم أن الرقص المرئي، ذلك المأدبة البصرية الجميلة، حاضر أمام الجمهور، إلا أن هناك الكثير مما لا يمكنهم الوصول إليه أو تقديره، وهنا يأتي دور العمى، ليدعو الجمهور من المبصرين والمكفوفين معًا إلى ما هو غير مرئي.
ما أتمناه هو أن يغادر الجمهور قاعة العرض وهم يشعرون بالرقص بطريقة جديدة، ويشعرون كذلك بحضور الإعاقة، ويستمعون إلى تصوراتها بطرق جديدة وحيوية.
الموسيقى كجسر بين العوالم
أما «ريختر»، الذي حققت تسجيلاته أكثر من 3.5 مليار استماع، فيقول إن الوصف الصوتي يخلق تواصلًا بين العمى والبصر «من خلال مشهد صوتي يمنح صوتًا لما لا يظهر دائمًا».
وأضاف: ليس مجرد وصف للأداء. بل هو أداء في حد ذاته.
مشاركة دولية وبث مباشر
يُذكر أن شركاء الباليه الملكي في «اليوم العالمي للباليه» يشملون «الباليه الوطني الكندي» و«الباليه الأسترالي»، والذين سيقدمون أيضًا لقطات حصرية من خلف الكواليس، وبروفات، وأعمالًا جديدة تُبث مباشرة عبر worldballetday.com
يُعد «الباليه الملكي» في لندن أحد أبرز الفرق الفنية في المملكة المتحدة، ويحمل صفة الملكي منذ عام 1956 بعد منحه اللقب رسميًا من العائلة المالكة البريطانية، وهو ما يعكس مكانته كمؤسسة وطنية ذات طابع رسمي، تحتضنها «دار الأوبرا الملكية» في كوفنت غاردن، ويشارك في العرض الجديد مجموعة من الفنانين من خلفيات وجنسيات متنوعة، في مقدمتهم الفنانة الكفيفة «ديفون هيلي» من كندا، إلى جانب مصمم الرقص البريطاني الشهير «وين ماكغريغور»، والملحن البريطاني-الألماني «ماكس ريختر»، والراقصة الأمريكية «تايلر بيك»، والمصممة البريطانية «ريبيكا مايلز ستيوارت»، والراقص «ليو ديكسون» من بريطانيا، إضافة إلى الراقص الهاوي الكفيف «تاكاشي كيكوتشي» من اليابان.
هذا التنوع في الجنسيات يعكس الطابع العالمي للعرض، الذي يأتي ضمن فلسفة «الباليه الملكي» الساعية إلى دمج الإعاقة في صميم التجربة الفنية، وتقديم الفنون الكلاسيكية بمنظور جديد يتجاوز حدود الحواس التقليدية.