لم يكن وقع الصدمة سهلاً على ريهام مرسي، المهندسة المصرية الكندية والأم لثلاثة أطفال، حين اكتشفت أنها السبب في إصابة ولديها بمرض وراثي قاتل، ومع أن الانهيار كان رد فعلها الأول، فإنها سرعان ما تحولت إلى صوت إنساني يصر على تحويل المعاناة إلى قوة، لتؤسس أول منظمة عربية في العالم للتوعية بهذا المرض النادر ومرض أديسون.

قالت ريهام لـ«جسور»: «تخيل!.. سيدة تتزوج وتنجب أولاداً يملؤون عليها الدنيا، وفجأة تكتشف أنها السبب في دمار حياتهم وصحتهم بدون قصد – طبعاً بدون قصد – ولكنه قدر ومكتوب».
وأوضحت: «أنا أم لثلاثة أولاد أعمارهم 15، 9 و5 سنوات. من سنة 2019 تقريباً بعد ولادة ابني الثالث بدأنا نلاحظ تغييراً في لون بشرة ابني الأوسط الذي كان لون بشرته فاتحاً جداً وبدأ يغمق تدريجياً. وبما أننا مقيمون في كندا والنظام الصحي مختلف عن مصر، توجهنا لطبيب الأسرة الذي قال إن الولد يعاني من حساسية الشمس»
تشخيص مضلل
« تمر سنوات والولد لونه يزداد غمقاناً، ذهبنا لطبيب أسرة مختلف وقال نفس الكلام. ولما سألته عن الأجزاء التي لا تتعرض للشمس ومع ذلك لونها غامق، قال بسبب حساسية الجسم ومن احتكاكه بالجلوس كثيراً، وبدأت تظهر أعراض أخرى مثل شهية ضعيفة، غممان نفس مستمر، عدم القدرة على ركوب الدراجة أو لعب كرة القدم أو أي رياضة مثل أقرانه. وكان رد الطبيب على هذه الأعراض أنها بسبب (متلازمة الطفل الأوسط) وأنه يغير من أخويه الكبير والصغير وبالتالي يحاول لفت انتباهنا، وطبعاً اقتنعنا لأنه كأي طفل كان يغير من أخيه الرضيع».
بداية الخيط
وأضافت ريهام: «حدثت المعجزة سنة 2022 عندما زارتنا أخت زوجي في كندا وهي دكتورة سمعيات. أول ما رأت ابني قالت لنا إنها تشك بأنه مصاب بمرض نادراً درسته – زمان – في كلية الطب اسمه أديسون أو القصور الكظري الأولي، والمريض بهذا المرض يعيش على الكورتيزون مدى الحياة».
قلب الأم أشطر طبيب
وأردفت: « نقلنا شكوكنا إلى طبيب الأسرة بخصوص مرض أديسون، فطلب تحليل الكورتيزول وحولنا لطبيب أطفال، وطبيب الأطفال حولنا إلى مستشفى من أكبر المستشفيات في أمريكا الشمالية، وبعد تحليل ابني للكورتيزول، النتيجة طلعت طبيعية وبالتالي أحد أكبر مستشفيات الأطفال في أمريكا الشمالية وأخبرني الأطباء بأن ابنك سليم ولا بحتاج إلى متابعة. لكني كنت متأكدة وقتها أن ابني (فيه) شيء غلط».
الخبر اليقين
وأكملت: «وقتها كانت والدتي في مصر وذهبت لأحد أطباء غدد الأطفال هناك، وأرت له صورة لابني وهو صغير وبشرته كانت بيضاء وصورته في الوقت الحالي: غامق البشرة وشفاهه مزرقة ولثته أيضاً، وحين اطلعت على التحاليل قالت لها 90٪ الولد عنده أديسون وغير متأكدة من دقة التحاليل ولا بد أن تعاد ويضاف إليها هرمون محفز للغدد الكظرية. وبالتالي، غيرت طبيب الأسرة وطلبت إعادة تحليل الكورتيزول وإضافة الهرمون الذي طلبته الدكتورة، وغيرت معمل التحاليل، وساعتها كانت النتيجة كورتيزول منخفض والهرمون المحفز مرتفع جداً وتم التشخيص بالقصور الكظري الأولي».
الصدمة الثانية
وأضافت: «ومن هنا بدأنا رحلة اكتشاف انتهت بتشخيصه بهذا المرض فعلاً، لكن أُجريت تحاليل أخرى لمعرفة سبب القصور الكظري، وفعلاً اكتشفنا أنه مصاب بمرض جيني خطير جداً هو الذي سبب له أديسون، وقد يتسبب في إعاقة كاملة وفقدان جميع الحواس لانفصال المخ عن الجسم تدريجياً، وبما أنه وراثي كان لا بد أن أحلل لإخوته، واكتشفنا أن ابني الكبير الذي كان أمامنا سليما ومعافى ونشيطا – وعمري ما كنت أفكر أنه يذهب لطبيب- عنده نفس المرض الجيني وعلى بدايات مرض أديسون، وأنني أنا حاملة للمرض الجيني ونقلته لهم».
تصمت ريهام وكأنها تحاول أخذ قسط من الراحة قبل أن تواصل حديثها لـ«جسور»: «تم تحويلهم إلى اخصائية، وكان رأيها لا بد أن تُجرى زراعة نخاع لهما في أسرع وقت وإلا سنندم ، بالرغم من مخاطرها».
«وبالرجوع إلى أطباء متخصصين في الجينات في مصر والخليج حصلنا على الرأي نفسه، وبعد عمل رنين على المخ، اكتشفت أن مخ ابني الأوسط سليم ولكن وجدوا تغييرات في مخ ابني الكبير، وبالتالي مستشفى الأطفال كان رأيهم يختلف عن دكاترة الجينات، وقالوا لا يمكن إجراء زراعة إلا في وجود تغييرات في المخ، وبالفعل بدأوا في إجراءات البحث عن متطابق كامل لابني في سجل متبرعي زراعة النخاع العالمي، ولم يكن هناك متطابق كامل».
واستطردت: «في ذلك الوقت سألت طبيب زراعة النخاع هل يتم إجراء عمليات زراعة نخاع لهذا المرض كثيراً؟.. وكان رده: لو قابلنا مريضاً واحداً عنده ALD كل سنتين يبقى كثير!»
البحث عن فرصة نجاة
« تواصلت بخبراء متخصصين في هذا المرض بالذات في جميع أنحاء العالم: أمريكا، ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، وبدأت أبحث عن إيميلاتهم وأراسلهم وأبعث لهم صور الرنين الخاصة بأولادي وآخذ رأيهم. وكانت الإجابة أن التغييرات التي في مخ ابني الكبير ليس لها علاقة بمرض ALD ولا يوجد خطورة منها، وكان آخر ما فعلته توجهت إلى مركز كينيدي كريجر في بالتيمور بأمريكا، وهو مركز متخصص في بياض الدماغ leukodystrophies، وفحصهم أحد الخبراء في هذا المرض وأكد نفس الكلام. وبالتالي توجهت إلى الأطباء هنا في كندا وطلبت وقف إجراءات زراعة النخاع، وقدمت تقارير الخبراء التي تؤكد أن ابني ليس بحاجة لزراعة نخاع ولكن يجب فحص مخه بالرنين بالصبغة هو وأخوه كل ستة أشهر ثم في سن معين كل سنة مدى الحياة، لأن تآكل بياض الدماغ أو البؤر التي تحدث تتكون قبل ظهور أي أعراض دماغية، ويكون هذا هو الوقت المناسب لنجاح العملية».

وأضافت: «هذه العملية ليست علاجاً وإنما فقط إجراء لوقف تطور المرض، لأنه مرض لم يتم اكتشاف علاج له واسمه ALD (adrenoleukodystrophy) أو الحثل الكظري وبياض الدماغ، لأنه يدمر الغدد الكظرية وبذلك يسبب أديسون، ويؤدي أيضاً إلى تآكل المادة البيضاء بالمخ وبالنخاع الشوكي».
تحويل المحنة إلى منفعة
قررت ريهام وزوجها تحويل محنتهم إلى منفعة للآخرين وهي تقول: « لم يكن أمامي الكثير من الخيارات؛ إما أستسلم للحزن وأدمر أسرتي، أو أرضى بقضاء الله وأحاول أن أجد الخير في الابتلاء».
أسست ريهام مع زوجها منظمة «ALD Hope» غير الربحية، وهي الأولى من نوعها في كندا التي تختص بالتوعية بهذا المرض، والأولى عالمياً التي تقدم محتوى موسعاً باللغة العربية إلى جانب الإنجليزية.

وأكدت أن أهداف المنظمة تتمثل في نشر الوعي بالمرضين، والدعوة لإدراج فحص ALD ضمن فحوصات المواليد الجدد، وهو ما تحقق بالفعل في مقاطعة أونتاريو الكندية بدءاً من أغسطس الجاري. كما توفر المنظمة الدعم المعنوي والمادي للأسر، حيث تمكنت من جمع تبرعات لتمويل عملية زراعة نخاع لطفل في مصر كان المرض قد بدأ يؤثر على مخه.
تأثير يتخطى الحدود
لم يقتصر نشاط ريهام على كندا،بل امتد ليشمل العالم العربي والعالم بأسره بإنتاج محتوى توعوي بالفيديو باللغتين العربية والإنجليزية، وتتواصل مع مرضى وعائلات من مختلف الدول، وتسجل قصصهم ضمن حملة «#ProudToBeRare». كما تعمل على توفير حقائب طوارئ لحقن الهيدروكورتيزون، والسعي لتصميم أساور طبية باللغة العربية لإنقاذ المرضى أثناء الأزمات.

كما أصبحت «ALD Hope» عضواً في اتحادات دولية مرموقة مثل الاتحاد الدولي لأمراض الغدد الكظرية، ومنظمة الأمراض النادرة العالمية، وتتعاون مع منظمات رائدة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا لترجمة المواد التعليمية إلى العربية.
واختتمت ريهام حديثها لـ«جسور» بقولها: «حسيت إني اتولدت من جديد ولقيت الرسالة اللي اتخلقت علشانها. بكل دعوة من قلب وأساعد فيها حد، بحس إني بأبعد خطوة عن أي حاجة وحشة تحصل لأولادي. اتعلمت إن مفيش حاجة في الدنيا تسوى جنب صحتنا وصحة أولادنا، وإن الأمل هو اللي بيعيشنا».
الحثل الكظري
الحثل الكظري أو Adrenoleukodystrophy (ALD) هو أحد الأمراض الوراثية النادرة التي تصيب الغدة الكظرية والجهاز العصبي على حد سواء. يرتبط المرض بالكروموسوم X، ما يجعله ينتقل عادةً من الأم الحاملة للجين إلى الأبناء الذكور، في حين يمكن أن تحمل الإناث الجين من دون ظهور أعراض واضحة عليهن.
ويحدث المرض نتيجة خلل في تكسير أحماض دهنية طويلة السلسلة داخل الخلايا، ما يؤدي إلى تراكمها في الدماغ والغدد الكظرية. هذا التراكم يتسبب تدريجياً في تدمير غمد المايلين، وهو الطبقة التي تحيط بالألياف العصبية وتحميها، وبالتالي يفقد المريض القدرة على نقل الإشارات العصبية بشكل سليم.
الأعراض تبدأ غالباً بشكل خادع، إذ قد يلاحظ الأهل على الطفل بعض علامات الإرهاق أو صعوبة في التركيز أو اضطرابات سلوكية بسيطة، لكنها تتطور سريعاً إلى مشاكل أكبر مثل فقدان البصر أو السمع، صعوبة في الحركة، نوبات صرع، ثم فقدان تدريجي للقدرات الحركية والعقلية. ومع غياب التشخيص المبكر والعلاج المناسب، قد يصل الأمر إلى الدخول في غيبوبة أو الوفاة في سن مبكرة.
وفي حالات كثيرة، يترافق الحثل الكظري مع قصور الغدة الكظرية المعروف باسم مرض أديسون، وهو حالة يفشل فيها الجسم في إفراز هرمونات أساسية مثل الكورتيزول والألدوستيرون. غياب هذه الهرمونات يعرّض المريض لأزمات صحية حادة مثل الهبوط المفاجئ في الضغط ونقص الأملاح والسكر في الدم، ما يجعله بحاجة ماسة لعلاج دائم بالكورتيزون، وأي تأخير في تناول الجرعات قد يشكل خطراً على الحياة.
تكمن خطورة المرض في أن معظم أنظمته الصحية لا تضعه ضمن قائمة الفحوصات الروتينية للمواليد، ما يؤدي إلى اكتشافه في مراحل متأخرة بعد فوات فرصة التدخل العلاجي المبكر. ولهذا يطالب خبراء الصحة ومنظمات المرضى حول العالم بضرورة إدراج فحص الحثل الكظري ضمن تحاليل حديثي الولادة، وتشجيع الأسر التي لديها تاريخ مرضي على إجراء الفحوصات الجينية الوقائية.
ورغم ندرة الحثل الكظري، فإن قصص الأسر المصابة تسلّط الضوء على الحاجة الملحة للتوعية والبحث العلمي، فالتشخيص المبكر قد يغيّر مصير طفل من حياة مليئة بالمعاناة إلى إمكانية السيطرة على المرض أو إبطاء تقدمه بشكل كبير.