بيننا فنانون ومبدعون يمتلكون رؤية خاصة للعالم، يرسمون بأصابع القلب، وينحتون بالصبر، ويكتبون بلغة المشاعر الصادقة، إبداعاتهم ليست مجرد أعمال فنية، بل هي شهادات حية على أن القوة الحقيقية تكمن في الإرادة، وأن الموهبة لا تحتاج إلى مسار ممهد، بل إلى شغف لا يعرف المستحيل، هم يفتحون لنا آفاقا جديدة لنرى الجمال من زوايا لم نعتد عليها، ويذكروننا دائما بأن الإنسان قادر على العطاء والإبداع مهما كانت التحديات.
وقبل أيام، أقدمت مذيعة مصرية، هي بالأساس فنانة تشكيلية، على تقديم حلقة فريدة من برنامجها الذي يحمل اسم «سمرة» كانت بمثابة نافذة فنية وإنسانية، تجاوزت حدود الإعلام التقليدي لتتحول إلى وثيقة بصرية عن قوة الإرادة والموهبة. لم تكن الحلقة مجرد فقرات وتقارير عن فنانين من ذوي الهمم، بل كانت رحلة عميقة في عوالم الإبداع التي شقها فنانون من ذوي الهمم، مؤكدة على أن الفن لا يولد فقط من المدارس الأكاديمية، بل ينبع من قلب يرفض الاستسلام.
يعانون كثيرا لإيجاد عمل.. ولوحاتهم تؤخذ بدون مقابل
بدأت القصة قبل أن تضاء أضواء الأستوديو، كما تروي الفنانة فاطمة حسن لـ «جسور» كيف كانت البذرة الأولى لهذه الحلقة المميزة. تقول: «الفكرة كانت نابعة من إحساس حقيقي بالمسؤولية، وبالرغبة في أن نفتح مساحة حقيقية يستطيعون فيها التعبير عن مواهبهم، لم يكن الهدف مجرد تقدير، بل إيصال رسالة واضحة: أن الفن ليس حكرا على فئة معينة، وأن الموهبة الحقيقية تتكلم بصوتها».
لم تأت الفكرة من فراغ، كان الفنان هاني يوسف هو من ألقى حجرها الأول في بركة الأفكار، عندما اقترح على فاطمة حسن الاستماع إلى شعر الشاعر الشاب الكفيف عبد الله محمد، من هنا بدأت عجلة الإعداد تدور.

يقول فريق الإعداد: «لقد تحمسنا جميعا من اللحظة الأولى، شعرنا أننا أمام قصص تستحق أن تروى، وتفاصيل تستحق أن تكشف».
كان العمل شبيها بنسج لوحة فنية معقدة، وحسب ما تقول فاطمة، تواصل فريق الإعداد ورئيس التحرير محمود صالح مع الدكتور سعيد الولداني، الخبير في لغة الإشارة، الذي فتح أبوابا أخرى عندما اقترح استضافة الفنانين التشكيليين الصم والبكم، سيد وعبد الرحمن، وهنا تحولت الحلقة من مجرد فقرة إلى كيان كامل، إلى رسالة مجتمعية شاملة قرروا أن يكرسوا لها كل وقتهم وجهدهم.
تقول فاطمة: «قررنا أن تكون الحلقة كلها عن ذوي الهمم، حتى المقدمة، وأن نلغي باقي فقرات اليوم، كلنا كنا متحمسين واشتغلنا بإخلاص».
قصص خلف الكواليس
عندما التقت فاطمة حسن بالفنانين لأول مرة، لم تكن تتوقع هذا الكم من الإبداع. «أنا شخصيا انبهرت»، موضحة. «لأن ما رأيته لم يكن مجرد موهبة، بل طاقة فنية خالصة، وتعبير صادق جدا».
كانت فاطمة منبهرة بالصدق الذي يتدفق من أعمالهم، ف«في لوحاتهم، هناك صدق لا نراه دائما عند الفنانين التقليديين»، شارحة أن أسلوبهم «مختلف فعلا، ليس مقيدا بقواعد أكاديمية، فيه حرية، وعفوية، وجرأة»، هي ترى أنهم «يرسمون من قلوبهم على الورق، دون التفكير في التكنيك، وهذا في حد ذاته جمال لا يضاهى».
عبد الله محمد.. النور الذي يرى به الأب
قصة عبد الله كانت هي الأولى التي تجسدت أمام الكاميرا، حيث شاب كفيف يكتب الشعر ويرسم، ولكن ليس وحده.. تقول الفنانة فاطمة حسن مقدمة البرنامج: «لفت انتباهي في قصة عبد الله أن والده هو النور الذي يرى به. هو الذي يكتب شعره بيده، وهو الذي يعلمه الرسم». الأب الذي ظهر في الحلقة بكامل الفخر والاحتضان، كان هو القناة التي يتدفق عبرها إبداع ابنه إلى العالم.

في لقطات مؤثرة، شرح عبد الله كيف بدأ رحلته مع الشعر بعد مشاركته في مسابقة، وكيف أن والده لم يكن مجرد مساعد، بل كان مرشدا ومصححا، يساعده في صياغة الكلمات وتنقيتها.
وفي فقرة الرسم، كشف عبد الله عن كيفية تعلمه الرسم باستخدام النقاط البارزة، وكيف يقوم والده ببناء مجسمات ثلاثية الأبعاد من الطين ليتعرف عليها عبد الله بلمسة يديه، فيتحول الشكل الملموس إلى فكرة مرئية في ذهنه.
لم يقتصر إبداع عبد الله على الشعر والرسم، بل امتد إلى حفظ القرآن الكريم، حيث حفظ ثلاثة أجزاء، وإلى الإنشاد الديني.وفي لقطة لا تنسى، قدم عبد الله أنشودة في مدح الرسول، بصوت عذب يحمل في طياته عمق الإيمان، مما أثار مشاعر الجميع في الاستوديو، وتحدث عن إنجازاته الأخرى، مثل إطلاقه مبادرة «أبطال الإرادة والبساطة»، مؤكدا أن الإعاقة ليست عائقا أمام تحقيق الأحلام.
سيد وعبد الرحمن.. موهبة في وجه التحديات
تغيرت أجواء الحلقة عندما انتقل الحديث إلى الفنانين الصم والبكم، سيد وعبد الرحمن، فهنا أضافت القصة بعدا آخر ليس فقط عن الإبداع، بل عن التحديات والصعوبات التي يواجهها المبدعون في المجتمع.
«لفت نظري أن سيد وعبد الرحمن، رغم أنهما مبدعان جدا ولوحاتهما جميلة، للأسف لم يكن هناك من يساعدهما»، تقول فاطمة بأسى، كاشفة عن الجانب المظلم الذي واجهاه: «عكس ذلك تماما، يؤخذ منهما لوحاتهما بدون مقابل، لقد تم النصب عليهما كثيرا، وفي لوحات كانت من المفروض أن تعرض في معارض، تم الاستيلاء عليها».
في لقطات تعبيرية، قام سيد وعبد الرحمن بعرض أعمالهما، التي كانت تحفا فنية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، سيد الذي بدأ رحلته في عام 2016 عرض لوحات تجمع بين الخشب والورق والقص واللصق، شرح كيف أن الألوان بالنسبة له هي لغة المشاعر التي لا يحتاج فيها إلى الكلام.
أما عبد الرحمن الذي بدأ عام 2020 فقدم أعمالا مبدعة من خامات بسيطة مثل خافض اللسان والأقمشة، ليثبت أن الإبداع لا يحده شيء، وبمساعدة الدكتور سعيد الولداني، الذي كان بمثابة صوتهم، تحدثا عن رحلتهما مع الفن وكيف كانت أسرهم هي مصدر الدعم الوحيد لهم.
وتحدث الولداني عن صعوبة ترجمة المشاعر الدقيقة من خلال لغة الإشارة، وكيف أن هذه الفئة تعاني في التعليم العالي، حيث تقتصر فرصهم على كليات معينة، مما يحد من طموحاتهم ويجعلهم «يعانون كثيرا لإيجاد عمل».
رغم ما سردناه من تحديات وصعاب، إلا أن الفنانة فاطمة حسن لم تترك المشاهدين في حالة من اليأس، بل وعدت بدعم الفنانين ومساعدتهم في عرض أعمالهم والوصول إلى الفرص التي يستحقونها. كانت كلماتها بمثابة شعاع أمل، مؤكدة أن دور الإعلام لا يقتصر على عرض القضايا، بل يمتد إلى المشاركة في حلها.
هذه الحلقة نجحت في تجاوز الأطر التقليدية للصحافة التلفزيونية، لم تكن مجرد تقرير عن مواهب، بل كانت قصة عن الصمود والحب والتحديات، وعن أن الفن يمكن أن يكون مرآة تعكس أسمى معاني الإنسانية.