حين تتأخر الكلمات أو تختفي. أو لا تُفهم المشاعر كما ينبغي. وتضطرب الحواس في تفاعلها مع العالم. حيث تبدو الأشياء البسيطة معقدة. وتثير التفاصيل الصغيرة الانتباه أكثر مما يجب. ويصبح الروتين الثابت ملاذًا للأمان. هنا يبدأ عالم طيف التوحد. عالم يواجه أصحابه تحديات يومية في التواصل والتفاعل الاجتماعي. يحتاج الأطفال المصابون بطيف التوحد إلى فهم حقيقي. ودعم واعٍ. وصبر ممتد من الأسرة والمجتمع المحيط.
التوحد اضطراب نمائي عصبي يظهر في مرحلة الطفولة. يؤثر على قدرة الفرد على التواصل الاجتماعي وفهم العالم من حوله. الأشخاص المصابون بطيف التوحد يواجهون صعوبات في التعبير عن مشاعرهم أو تفسير مشاعر الآخرين. وقد يظهر لديهم سلوكيات متكررة أو اهتمام شديد بموضوع معين. هذه الاختلافات تجعل تعاملهم مع الحياة اليومية والتكيف الاجتماعي تحديًا مستمرًا. لكنها لا تقلل من قدراتهم الفردية أو إمكانياتهم في التعلم والنمو إذا قدمنا الدعم المناسب لهم.
اختلافات سلوكية وحسية من طفل لآخر
الأعراض تختلف من طفل لآخر. تشمل صعوبات في التواصل مع الآخرين وفهم الإشارات الاجتماعية. فيما يعتمد البعض على لغة الجسد أو النظرات للتعبير عن أنفسهم. وقد يختار البعض الانعزال أو التعبير عن احتياجاتهم بطرق غير تقليدية. كما تظهر سلوكيات متكررة أو التزام صارم بروتين معين يمنحهم شعورًا بالتحكم والأمان. أحيانًا يكون لديهم حساسية مفرطة أو منخفضة تجاه المؤثرات الحسية مثل الأصوات واللمس والضوء. كل ذلك يجعل التعامل مع البيئة المحيطة تحديًا إضافيًا لهم ولأسرهم.
لا يوجد سبب للتوحد. ولكنه غالبًا نتيجة تفاعل معقد بين عوامل وراثية وبيئية وبيولوجية. فيما تلعب الجينات دورًا رئيسيًا في تحديد فرص الإصابة. بينما يمكن أن تؤثر العوامل البيئية ومضاعفات الولادة المبكرة أو التعرض لبعض السموم أثناء الحمل في تفاقم الحالة. الدراسات الحديثة تشير إلى اختلافات في نمو الدماغ ووظائف الأعصاب مرتبطة بظهور الأعراض المختلفة للتوحد. لكنها لا تحدد بدقة كيفية ظهورها لكل فرد.
التشخيص المبكر بوابة التدخل والدعم
تشخيص التوحد يتم عادة قبل سن الثالثة من خلال ملاحظة سلوك الطفل وتفاعله مع البيئة المحيطة. ويشمل مقابلات مفصلة مع الأسرة لفهم تاريخ النمو والمهارات الاجتماعية. إضافة إلى استخدام اختبارات معيارية متخصصة تساعد في تحديد مستوى اضطراب الطيف ومدى تأثيره على الحياة اليومية. التشخيص المبكر يمثل خطوة حاسمة في توجيه الطفل نحو برامج علاجية وتعليمية مناسبة. كما يساعد الأسرة على فهم الحالة والتخطيط للمستقبل بشكل أفضل.
العلاج الشافي للتوحد غير موجود. لكن التدخل المبكر يسهم في تحسين مهارات التواصل والسلوك لدى الطفل. يشمل ذلك برامج تطوير المهارات الاجتماعية والسلوكية. وعلاج النطق واللغة. وتحفيز الحواس من خلال برامج مهنية وتأهيلية تساعد الطفل على التكيف مع البيئة اليومية. التعليم المخصص أو الدمج في المدارس العادية وفق قدرة الطفل واحتياجاته يعد من أهم عناصر الدعم. ويضمن تنمية مهاراته الأكاديمية والاجتماعية.
مسؤولية مشتركة بين الأسرة والمجتمع
تأثير التوحد لا تقتصر على الفرد فقط. بل يمتد تأثيره إلى الأسرة والمجتمع. يحتاج الوالدان إلى دعم نفسي وإرشاد لفهم سلوكيات الطفل. بينما المجتمع مطالب بتوفير بيئة تعليمية وشمولية تتيح للأطفال المصابين بطيف التوحد فرص التعلم والاندماج والتفاعل. التكنولوجيا الحديثة ساعدت في توفير أدوات مساعدة للأطفال المصابين بطيف التوحد مثل تطبيقات التواصل وأجهزة التحفيز الحسي. كل ذلك يعزز قدراتهم على التعلم والتفاعل.
وعلى الرغم من التحديات. يمتلك الأطفال المصابون بطيف التوحد إمكانيات وقدرات فردية يمكن تطويرها. التشخيص المبكر والتدخل المناسب والوعي المجتمعي يمكن أن يغير حياة الطفل والأسرة بالكامل. كما يضمن له استقلالية أكبر وفرصًا أفضل للتعلم والعمل والمشاركة الاجتماعية. لتصبح رحلة طيف التوحد ليست مجرد صعوبة. بل فرصة لاكتشاف طرق مختلفة للتعلم والنمو والتواصل.
علامات مبكرة تظهر منذ العام الأول
وفي هذا الإطار تقول الدكتورة مروة ثابت، مدير مركز التوحد بالمؤسسة القومية لتنمية الأسرة والمجتمع بمصر في تصريحات لـ«جسور»: “اضطراب طيف التوحد يظهر مبكرًا في سنوات الطفولة الأولى. ويمكن ملاحظة بعض العلامات منذ عمر عام ونصف. الطفل الطبيعي في هذا العمر يستطيع تتبع إشارات والديه والنظر إلى الأشياء التي يشيرون إليها. بينما لا يُبدي طفل طيف التوحد اهتمامًا بهذه الإشارات أو تفاعلًا معها.

وتوضح أن الطفل الطبيعي يبدأ في الإشارة إلى الأشياء لجذب انتباه والديه أو مشاركتهم اهتمامه. في حين يميل طفل طيف التوحد إلى الاستقلالية والاعتماد على نفسه. وإذا أراد شيئًا يفضّل الحصول عليه بنفسه. وقد يواجه صعوبة في تنفيذ الأوامر أو التخلي عن نشاط يقوم به.
وتضيف أن الفروق تصبح أوضح بعد عمر السنة. حيث يستجيب الأطفال الطبيعيون للكلمات البسيطة والإشارات. ويلتفتون عند سماع أسمائهم. بينما قد لا يفهم طفل طيف التوحد ما يقصده الوالدان أو ما يشيرون إليه. كما يبدأ الطفل الطبيعي في تقليد حركات والديه مثل التحدث في الهاتف أو أداء بعض الحركات اليومية. بينما لا يُبدي طفل طيف التوحد اهتمامًا بالتقليد أو المحاكاة.
العزلة والنمطية بعد عمر السنتين
وعن الفروق بعد عمر السنتين. تشير الدكتورة مروة ثابت إلى أن الطفل الطبيعي يفضّل اللعب مع والديه. وينظر إلى أعينهم للتأكد من اهتمامهم به. بينما يتجنب طفل طيف التوحد التواصل البصري. ويفضّل اللعب بمفرده. كما يتميز الطفل الطبيعي بالتنقل السريع بين الألعاب والأنشطة. بينما يميل طفل طيف التوحد إلى النمطية وتكرار نفس السلوك أو النشاط لفترات طويلة.
وتؤكد أن الطفل الطبيعي بعد اكتساب بعض الكلمات يبدأ في الإشارة إلى الأشياء وتسميتها بأسمائها. بينما قد يكرر طفل طيف التوحد نفس الصوت أو الكلمة في سياقات مختلفة دون إدراك معناها. وهو ما يُعرف بالترديد اللفظي.
وحول أسباب التوحد، تقول مدير مركز التوحد: إن الاضطراب لا يرجع إلى سبب واحد. بل هو نتيجة تداخل عوامل متعددة. من بينها العوامل الوراثية. ومضاعفات الحمل والولادة مثل نقص الأكسجين أثناء الولادة أو إصابة الأم ببعض الأمراض خلال فترة الحمل. كما تشير بعض الدراسات إلى ارتباط طيف التوحد باختلافات في نمو الدماغ ووظائف الجهاز العصبي. إضافة إلى عوامل بيوكيميائية تتعلق بمستويات بعض النواقل العصبية في الدم.
التشخيص المبكر مفتاح تحسين الحالة
وتوضح أن تشخيص التوحد المبكر يلعب دورًا محوريًا في تحسين حالة الطفل. حيث يساعد في توجيهه إلى البرامج العلاجية المناسبة. وتؤكد أنه لا يوجد علاج شافٍ للتوحد. لكن التدخل المبكر يسهم بشكل كبير في تحسين مهارات التواصل والسلوك والتفاعل الاجتماعي.
وفيما يتعلق بعلاج طفل طيف التوحد داخل المنزل. تشدد الدكتورة مروة ثابت على أهمية فهم الأسرة لطبيعة الاضطراب. وضرورة التعامل مع الطفل بهدوء وصبر. وتجنب إجباره على سلوكيات لا يستطيع القيام بها. كما تنصح بوجود روتين يومي ثابت يمنح الطفل شعورًا بالأمان. واستخدام أساليب بسيطة وواضحة في التواصل مثل الصور أو الإشارات.
المثيرات الحسية والأنشطة اليومية
وتضيف أن على الأسرة الانتباه للمثيرات الحسية التي قد تزعج الطفل. مثل الأصوات العالية أو الإضاءة القوية أو بعض الملامس. مع مراعاة أن استجابة الأطفال تختلف من حالة لأخرى. كما تؤكد أهمية إشراك الطفل في الأنشطة اليومية البسيطة. وتشجيعه على التفاعل مع البيئة المحيطة بشكل تدريجي.
وتختتم تصريحاتها بالتأكيد على أن رعاية طفل طيف التوحد رحلة طويلة تتطلب دعمًا نفسيًا للأسرة. مشيرة إلى أهمية اللجوء للمؤسسات المتخصصة وبرامج الرعاية والتأهيل. التي لا تقتصر فقط على رعاية الطفل. بل تعمل أيضًا على تنمية مهاراته وقدرته على الاندماج في المجتمع وتحقيق أقصى درجة ممكنة من الاستقلالية.


.png)


















































