عبد العزيز العبيد، الرجل الذي حوّل تحدي فقدان السمع إلى رحلة نجاح ملهمة. قضى حياته يبحث عن المعرفة والانتماء واللغة العربية. بدأ طفولته المرتبكة بمحاولات صعبة للاندماج، ثم اكتسب هويته في معهد الأمل للصم في العاصمة السعودية الرياض.
رحلة جديدة في بلاد العم سام، هذه المرة أجل العلم والدراسة. في جامعة جاليوديت بالولايات المتحدة. عمل السعودي عبدالعزيز العبيد في التدريس للصم، قبل أن يشق طريقه إلى وزارة الخارجية السعودية. حتى تقاعد عام 2021. بعد آخر منصب له كملحق دبلوماسي بالسفارة السعودية في واشنطن.
عبد العزيز العبيد.. قصة إلهام بين جامعة الرياض ومعهد الأمل
بين ذكرياته السعيدة والمؤلمة، وقف عبد العزيز العبيد. متأملًا سنوات عمره التي حاول فيها أن يفهم صوت العالم. بقدرة على السمع لا تتجاوز 40 ٪، ومن هنا بدأ يكتب فصلًا إنسانيًا طويلًا، لا يزال يلهم الكثيرين إلى اليوم.
وعن طفولته يقول عبد العزيز لـ ” جسور” : «كانت طفولتي الأولى مليئة بالمحاولات، محاولات للانسجام، للعب، للفهم، وللوجود،.كنت أبحث عن إيقاع مختلف للحياة. التحدي الأصعب كان بين عمر الخامسة والثامنة، تلك السنوات التي يُفترض فيها أن يعيش الطفل أجمل لحظات عمره. لكنّي لم أستطع أن أكون جزءًا من عالم السمع السليم. كنت بين أطفال يسمعون كل كلمة. وكل نداء، وكل ضحكة، بينما كنتُ أحاول أن أفسّر العالم بحواسي الأخرى».

يضيف: كنت أشعر بأن المسافة بيني وبين أقراني أكبر من سنوات عمري، مسافة فرضها فقدان السمع. كما فرضها المجتمع الذي لم يكن مهيأً وقتها لفهم احتياجات طفل أصم.
ومع ذلك، كان هناك ما يشبه الإصرار الخفي الذي ينمو بداخلي، رغم كل شيء. ويقودني إلى المرحلة التالية من حياتي. المرحلة التي أصفها دائما أنها “لحظة ولادة جديدة” .
ميلاد الهوية في معهد الأمل
يحكي عبد العزيز عن نقطة التحول الكبرى في حياته، فيقول:”عندما بلغت الثامنة من عمري، أخذتني الأسرة إلى معهد الأمل للصم بالرياض، لم أكن أعرف أن بابًا جديدًا سيُفتح لي، بابًا للغة، للثقافة، وللانتماء، في تلك اللحظة، بدأتُ أتعلّم لغتي الأولى. وهي لغة الإشارة السعودية. وأستطيع أن أقول إنني في تلك البيئة اندمجت بنسبة 100%. كنتُ للمرة الأولى أعيش وسط أشخاص يفهمونني، دون أن أشرح، ودون أن أشعر أني غريب».
ويضيف عبد العزيز :”تلك التجربة كانت المرحلة التي بدأ فيها يتشكل وعيي بذاتي وبالآخرين. وبالانتماء إلى مجتمعٍ كامل له لغته وثقافته. فقد أثرت بيئة الصم السعوديين عليّ وبنت هويتي. هناك بدأت أشعر بأنني لست مختلفًا، ولا ناقصًا، ولا بحاجة لأن أبرر وجودي. كانت تلك السنوات العشر، من الثامنة إلى الثامنة عشرة، أعظم ما منحته لي الحياة».
ويكمل حديثه:” إن الفضل في تلك الرحلة يعود لأسرتي هي من فتحت هذا الباب. رفضوا الاستشارات الطبية السيئة التي قيلت لوالدي في البداية. عن علاج السمع، وكان قرار دخولي إلى معهد الأمل قرارًا إيجابيًا غيّر كل شيء».
ومع تخرجي من المعهد في سن الثامنة عشرة، كنت أحمل لغة جديدة، وثقافة جديدة، وإحساسًا بأنني الآن قادر على أن أبدأ الطريق.
رحلة المعرفة.. بين الرفض والتحدي
يستطرد عبد العزيز، ويقول:” بعد أن أنهيت دراستي بمعهد الأمل، اصطدمت بواقع آخر وهو واقع التعليم الجامعي، حيث تقدمت إلى جامعة الرياض، وهي جامعة الملك سعود حاليًا، ولم يتم قبولي بسبب أني أصم، وفقًا للتقرير الطبي من مستشفى الشميسي، سألتهم وماذا عن المكفوفين؟ فقالوا إن لديهم خدمات مساندة، أما الصم فلا يوجد لهم شيء».

لم تكن الصدمة سهلة، لكنها كانت بداية مرحلة جديدة من الإصرار، فبين الثامنة عشرة والحادية والعشرين، بدأت رحلة ذاتية لتعلم القراءة والكتابة، ومع إنني لم أكن ملمًا باللغة العربية حين تخرجت. تعلمتها بجهدي الذاتي، بالقراءة الحرة، وبمحاولات مستمرة للكتابة. وفي سن الحادية والعشرين شعرت أنني جاهز، وأن الطريق لا بد أن يُفتح لي، مهما طال».
ومع الوقت، وجدت بابًا آخر، بابًا لا يفتحه إلا من يعرف قيمة الصم علميًا وإنسانيًا، حيث سافرت بعدها إلى دول عديدة متقدمة في مجال تربية وتعليم الصم، وهناك اكتشفت جامعة خاصة بالصم فقط، هي جامعة جاليوديت في واشنطن دي سي. ذهبت إليها، ودرست لغة الإشارة الأمريكية واللغة الإنجليزية، وهما لغتا التدريس بالجامعة. ثم بدأت مرحلة البكالوريوس في تخصص الحكومة وهو العلوم السياسية، وتخرجت عام 2006».
من الدراسة إلى الدبلوماسية.. الطريق الذي لم أتوقعه
ويكمل عبد العزبز حديثه لـ«جسور» قائلًا:”في سن الثامنة والعشرين بدأت رحلتي المهنية في وزارة الخارجية، ولم أكن أتوقع أن تأخذ حياتي هذا المسار. وبعد عام واحد فقط حصلتُ على بعثة من وزارة التعليم العالي. لاستكمال دراستي الأكاديمية في الولايات المتحدة، وهناك بعد التخرج، واصلتُ دراستي بأخذ 18 ساعة في الدراسات العليا. بمجال الصم بين عامي 2006 و2008.
وعندما عدتُ إلى الرياض بدأتُ بتدريس اللغة العربية للصم. في فرع الجامعة العربية المفتوحة، قبل أن أتقدم عام 2010 إلى مسابقة بوزارة الخارجية لشغل وظيفة «ملحق»، وهي وظيفة دبلوماسية تتطلب مؤهلات محددة. كان عدد المتقدمين 400، اجتاز الفلترة منهم 95 فقط، وكان اسمي بينهم. وبعد ذلك تم توجيهي للعمل في السفارة السعودية بواشنطن كموظف علاقات عامة، وذلك في مارس 2010،. واستمرت خدمتي هناك حتى تقاعدي في أغسطس 2021.
ويختتم عبد العزيز حديثه، قائلا:هذه المحطات كلها لم تكن سهلة، لكنني تعلّمت أن الإصرار قادر على فتح أبوابٍ لم تكن يومًا في الحسبان.


.png)


















































