منذ اللحظة التي أدركت فيها الدكتورة عبير جودر أن طفلتها ليست ككلّ الأطفال، وبعد أن تبين لها الأمر، واتضح أنه التوحد، قُدر لها أن تتجرع مرارة الفقد.
رحلت صغيرتها، وكأنما جاءت لترسم لها طريقًا جديدًا، خاضته بشجاعة، وبمشاعر الأم، وبإصرار وحكمة العالِمة، إنها الدكتورة عبير جودر مستشار التربية الخاصة والتوحد بالبحرين، والتي تروي لـ « جسور» أهم محطات رحلتها مع التوحد، قائلة: كان مجئ طفلتي زلزالًا صغيرًا هزّ أركان حياتي من الجذور، حين وضعتها شعرتُ بشيءٍ في داخلي يقول إن ثمة أمرًا غير طبيعي، كانت ملامحها ساكنة أكثر مما ينبغي، ونومها الطويل لا يبعث الطمأنينة، كما كان يقول الجميع، كانوا يربتون على كتفي، ويؤكدون أن الأطفال يختلفون في الطباع لكن قلبي كان يهمس لي بشيءٍ آخر.
تستطرد جود: ومضت الأيام، وحين بلغت طفلتي شهرين ونصف، حملتها إلى الطبيب لأطمئن، لم تكن قادرة على تثبيت رقبتها، ولا تستجيب كما يفعل الأطفال في عمرها، نظرات الطبيب كانت كافية لأفهم أن شيئًا ما ليس على ما يرام، وبعد فحوص دقيقة، أخبرني بهدوء موجع “ابنتك تعاني من إعاقة ذهنية”.
وتكمل حديثها:” بكيتُ بكاءً لم أعرف له نهاية، وشعرت أن العالم كله انطفأ حولي، لكن الله الذي يبتلي بحكمة، لا يترك عباده في العتمة، كانت سورة الكهف التي رافقتني منذ الطفولة، هي رسالته لي، تتردد آياتها في قلبي لتذكرني أن وراء كل ابتلاءٍ حكمة، ووراء كل فقدٍ عطاء.

حينها استجمعت قواي، وقررت أن أواجه، و أتعلم، وأكون أمًّا لطفلتي بكل ما أوتيت من حبٍ وصبرٍ وإيمان، كنت في سنتي الجامعية الأخيرة آنذاك، أكملت دراستي وتخرجت، لكن تفكيري لم يفارق طفلتي.
كنتُ أعيش بين الكتب والقلق، بين المحاضرات ودموعٍ لا تجف، وفي أحد الأيام، قررت أن أبدأ من جديد، التحقتُ بـ دبلوم في صعوبات التعلم، رغم أنني لم أكن يومًا أفكر في هذا التخصص، أردت فقط أن أفهم ابنتي، و أتعلم كيف أتواصل معها.
وتكمل خبيرة التوحد: هكذا بدأت الرحلة، دخلتُ عالم التربية الخاصة، وبدأت أتعامل مع الأطفال ذوي الإعاقات المختلفة. كنتُ أرى ابنتي في ملامح كل طفل، وأجد فيهم عزاءً يخفف وجعي.
كنت أتعلم منهم أكثر مما أعلّمهم،تعلمت الصبر من هدوئهم، والإصرار من صمتهم.
محطة الفقد
وتستطرد:” لكن منتصف الطريق كان أقسى محطاته، فقدت طفلتي، رحلت عني بهدوءٍ كما جاءت، تاركةً في قلبي فراغًا لا يُملأ، أذكر أنني حين ودّعتها، لم أبكِ كما في المرة الأولى، كنتُ أعلم هذه المرة أن الله لم يأخذها، بل أعادها إليه بعد أن أدت رسالتها في حياتي، كانت ملاكًا جاء ليقودني إلى طريقٍ مختلف، طريقٍ جعل من وجعي رسالة.
ومنذ ذلك اليوم، لم أتوقف، واصلت رحلتي في مجال الإعاقة، أتعلم وأتعمق وأخدم. وجدت نفسي أقرب إلى فئة أطفال التوحد، استحوذوا على قلبي بذكائهم المختلف وعالمهم الهادئ المدهشن، كنت أرى فيهم ما يفوق الخيال، وكنت أشعر أن التواصل معهم لا يحتاج إلى كلمات، بل إلى صدقٍ ونقاء.
تقول مستشار التربية الخاصة والتوحد: بعد سنواتٍ من التدريب والعمل الميداني، اختارتني وزارة التربية والتعليم في البحرين للتعاون معهم في إعداد الخطط التعليمية والتأهيلية لأطفال التوحد، والمشاركة في برامج الدمج داخل المدارس الحكومية، كانت تلك اللحظة امتدادًا لوعدٍ قطعته لطفلتي الصغيرة أن أكون نورًا في حياة الأطفال الذين يشبهونها.

وتكمل حديثها بحماس :” ولأن الشغف لا يتوقف، أكملت دراستي العليا، وحصلت على درجة الماجستير المتخصص في اضطراب طيف التوحد، وتدرجت في العمل حتى أصبحت أخصائية ومسؤولة برامج الدمج والتربية الخاصة في وزارة التربية والتعليم، كما التحقت بعددٍ من الدورات المتقدمة في تحليل السلوك التطبيقي (ABA)، وأسهمت في تدريب المعلمين والأخصائيين على استراتيجيات التعامل مع الأطفال ذوي الاضطرابات النمائية”.
ذكاء أطفال التوحد
وتضيف جودر، بجانب عملي الحكومي، التحقت بالعمل في المجال التطوعي والاجتماعي، فكنتُ ضمن فرق العمل الوطني في مجال المسؤولية المجتمعية، وممثلةً للبحرين في مؤتمرات عربية ودولية تُعنى بذوي الإعاقة وحقوقهم، وحصلت على عدة جوائز، منها جائزة التميز المسؤول في المساهمات الإنسانية عام 2017، وجائزة الكفاءة العلمية في المسؤولية المجتمعية عام 2021، وجائزة البحرين للقيادات المجتمعية “عطاء” عام 2021، لكنها كانت بالنسبة لي رموزًا معنوية فقط، فكل تكريم حقيقي كنت أجده في عيون الأطفال حين يبتسمون.
وبعد سنوات أدركت أن ابنتي كانت بوصلتي التي تعلمت بها أن الأقدار لا تُعطينا ما نريد، لكنها دائمًا تمنحنا ما نحتاج إليه لنكبر، لنؤمن، ولنفهم، وأن الإعاقة عالمٌ من الإلهام، فيه الدرس، والرحمة، واليقين.
وتؤكد: رحلتي لم تنتهِ، لأن رسالتي لم تكتمل بعد، ما زال هناك أطفال ينتظرون من يسمعهم، ومن يراهم كما هم مميزون، لا ناقصون