في معرض «غير اعتيادي»، الزوار لن يقفوا أمام لوحات وألوان وحسب، بل أمام شهادة حية على قدرة الفن أن يتحول من مجرد وسيلة تعبير جمالي إلى بيان فلسفي عميق يغير المفاهيم المجتمعية.
المعرض الذي جاء بدعوة رسمية من المجلس القومي للأشخاص ذوي الإعاقة حسب الصفحة الرسمية على فيسبوك، حمل توقيع الدكتورة أمنية محمد السيد، المدرس المساعد بقسم التصوير في كلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان، التي استطاعت أن تجعل من تجربتها الشخصية منصة للإلهام والتمكين، وأن تضع الفن في قلب النقاش العام حول الدمج والشمولية.
البداية لم تكن عابرة فمنذ تخرجها عام 2014 كالأولى على دفعتها، وضعت أمنية بصمة واضحة على الساحة الأكاديمية والفنية، وأبدا لم يكن تفوقها مجرد درجات بل انعكاسا لرؤية فنية تتجاوز حدود القاعة الدراسية، حتى مشروع تخرجها كان مكرسا لذوي الإعاقات الذهنية، في محاولة مبكرة منها لمد الجسور بين الفن والمجتمع.

هذا الاختيار المبكر يكشف أن الالتزام بقضايا الإعاقة لم يكن وليد تجربة شخصية لاحقة، بل كان جزءا أصيلا من رؤيتها للفن كرسالة تحمل بعدا إنسانيا.
من المحنة إلى منصة إبداعية
القدر كان له كلمة فاصلة حين تعرضت أمنية لحادث أفضى إلى إعاقة حركية. بدلا من أن تكون هذه اللحظة نهاية، تحولت إلى بداية جديدة.. إلى التزام حقيقي غير مسارها الفني والإنساني، ولم يكن التحدي مجرد التعايش مع إعاقة جسدية، بل القدرة على تحويل الألم إلى مادة خام للإبداع، وصياغته في أعمال تشكيلية تلهم الآخرين.
روت أمنية بصدق في لقاء صحفي سابق: «هزمت إعاقتي بالإرادة والموهبة»، فصار هذا السرد جزءا من صورتها العامة، نموذجا للصلابة النفسية التي لا تكتفي بالصمود إنما أيضا تنتج جمالا ورسائل كونية.
ما ميز معرض «غير اعتيادي» أن اللوحات ليست سيرة ذاتية محصورة في معاناة شخصية إنما مرآة يتأمل فيها الزائر نفسه، حين يرى المتلقي تجربة أمنية وقد تحولت إلى أعمال بصرية نابضة، يدرك أن الإعاقة هنا ليست سوى استعارة عن المطبات التي يواجهها كل إنسان في حياته.. الفن هنا ليس وسيلة للتفريغ أو الشفاء الذاتي فقط، بل أداة لبناء تعاطف جمعي وتذكير بأن التجارب الإنسانية، مهما اختلفت تفاصيلها، تشترك في جوهرها.

من الدعم الخدمي إلى التمكين الثقافي
الدور الذي لعبه المجلس القومي للأشخاص ذوي الإعاقة بدعوته ورعايته للمعرض يعد إشارة إلى تحول أوسع في نظرة الدولة للفن كأداة للتمكين.. النموذج المصري هنا يذهب أبعد من الدعم الخدمي التقليدي، ليتبنى دعما ثقافيا وفكريا يفتح المجال أمام الفنانين ذوي الإعاقة لتقديم منتجاتهم كجزء من الحركة الفنية الوطنية، وفي المقابل تكشف تجارب إقليمية مثل تجهيز معارض في الأردن لذوي الاحتياجات الخاصة أن الشمولية الحقيقية تتحقق بتكامل البنية التحتية المادية مع الدعم الثقافي، بما يضمن مشاركة كاملة على المستويين العملي والرمزي.
وعززت أمنية مكانتها الأكاديمية كمدرس مساعد، وعضو في لجان تحكيم مثل مهرجان «أولادنا»، هذه المشاركة تجعلها صوتا مرجعيا لا مجرد حالة فردية، ووجودها في مواقع صنع القرار الثقافي والفني يضمن أن صوت التجربة الحية يجد صداه في السياسات والاختيارات، ما يجعلها سفيرة لقضية الدمج والشمولية بقدر ما هي فنانة تشكيلية.

وتضع تجربة أمنية محمد السيد أمامنا نموذجا استثنائيا وهو أنها فنانة بدأت مسيرتها بالتفوق الأكاديمي، حملت منذ البداية التزاما برسالة اجتماعية وعندما واجهتها المحنة، لم تنكسر بل أعادت صياغة الألم في شكل جمالي ملهم.
معرض «غير اعتيادي» هو حدث فني يرقى لأن يكون وثيقة إنسانية تثبت أن الفن قادر على أن يكون قوة محركة للتغيير الاجتماعي، وأن التجارب الفردية مهما بدت شخصية أو قاسية، يمكن أن تتحول إلى خطاب كوني يمس الجميع.

