يوافق اليوم، العشرون من ديسمبر، ذكرى وفاة أحد أعمدة الأدب الأمريكي والعالمي. الروائي الحائز على جائزة نوبل جون شتاينبيك. الذي رحل عن عالمنا في عام 1968. وفي الواقع، لم يترك شتاينبيك خلفه مجرد كتب. بل ترك شخصيات من لحم ودم لا تزال تعيش بيننا. وأشهرها بلا منازع شخصية ليني سمول في روايته الخالدة فئران ورجال (Of Mice and Men).
هنا نتناول الزاوية الأكثر إيلاما في هذا العمل الأدبي، وهي زاوية الإعاقة الذهنية. حيث نناقش كيف قدمت رواية فئران ورجال واحدا من أوائل النماذج الأدبية التي عرت نظرة المجتمع القاسية تجاه ذوي القدرات العقلية المحدودة. لذلك، سنغوص في أعماق العلاقة بين القوة الجسدية والعجز الذهني، وكيف انتهت القصة بمأساة لا تزال تثير الجدل الأخلاقي حتى يومنا هذا.
عن صاحب فئران ورجال
عرف جون شتاينبيك طوال مسيرته الأدبية بأنه «صوت من لا صوت لهم». حيث ركزت أعماله على العمال الكادحين والمهاجرين والمهمشين. وفقا لسيرة شتاينبيك المنشورة على موقع «جائزة نوبل» الرسمي. فإن كتاباته تميزت بالتعاطف الإنساني العميق مع ضحايا الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة. من هذا المنطلق، لم تكن رواية فئران ورجال مجرد قصة عن صديقين يبحثان عن عمل. بل كانت تشريحا لواقع قاس لا يرحم الضعيف.
علاوة على ذلك، اختار شتاينبيك أن يطرح قضية الإعاقة الذهنية. في وقت لم يكن العالم فيه يعترف بأي حقوق لهذه الفئة. بسبب ذلك، يعتبر النقاد أن شتاينبيك كان سابقا لعصره في تسليط الضوء على هذه الفئة. حتى وإن كانت النهاية التي اختارها لهم صادمة ومؤلمة.
وتتمحور رواية فئران ورجال حول شخصيتين رئيسيتين.. جورج ميلتون، الرجل الذكي ضئيل الحجم، ورفيقه ليني سمول، العملاق ذو البنيان الجسدي الهائل والعقل الطفولي. حسب تحليل نقدي نشرته صحيفة «الجارديان» البريطانية. فإن شتاينبيك استخدم اسم سمول (صغير) بشكل تهكمي. ليشير إلى صغر قدراته العقلية ووضاعته الاجتماعية، رغم ضخامة جسده.

في الحقيقة، يمثل ليني تجسيدا دقيقا لما يعرف بالإعاقة الذهنية المقترنة بالقوة الجسدية غير المنضبطة. حيث يعاني ليني من عدم القدرة على تذكر الأشياء. وعدم فهم القواعد الاجتماعية المعقدة. والاعتماد الكلي على صديقه جورج في تسيير أمور حياته. وهذا التناقض هو المحرك الأساسي للمأساة في الرواية.
مأساة ليني في رواية فئران ورجال
تكمن مأساة ليني في رواية فئران ورجال في أن حبه للأشياء الناعمة والجميلة يتحول دائما إلى كارثة. إذ يحب ليني تلمس الفئران والحيوانات الصغيرة. لكنه يقتلها دون قصد بسبب قوته المفرطة التي لا يدرك حجمها. استنادا إلى دراسة أكاديمية من جامعة ستانفورد.. فإن شتاينبيك أراد من خلال هذا السلوك أن يوضح أن الخطر في ذوي الإعاقة الذهنية (في نظر المجتمع) لا ينبع من الشر. بل من الجهل وعدم القدرة على التحكم.
نتيجة لذلك، يتطور الأمر من قتل فأر، إلى قتل جرو، وصولا إلى القتل غير المتعمد لزوجة كيرلي. في كل هذه المواقف، لم يكن ليني مجرما. بل كان طفلا خائفا في جسد رجل قوي. يحاول إسكات المرأة لكي لا يغضب منه جورج. هنا تبرز مأساة غياب التأهيل والتدريب لهذه الفئة في ذلك العصر.
وتصور رواية فئران ورجال المجتمع الأمريكي في فترة الكساد الكبير كبيئة طاردة وعدائية تجاه ذوي الإعاقة. فبدلا من تقديم الدعم أو الرعاية ل ليني. كان ينظر إليه إما كآلة عمل مفيدة بسبب قوته. أو كوحش خطير يجب التخلص منه. وفقا لمقال تاريخي في موقع History.com.. فإن تلك الحقبة شهدت انتشار حركات «تحسين النسل» (Eugenics) التي كانت تدعو لتعقيم وعزل ذوي الإعاقات الذهنية باعتبارهم عبئا جينيا.
طالع: «صوت أصم»: رواية تكشف تفاصيل عالم الصم وطرق كسر عزلتهم
من ناحية أخرى، كان جورج هو ما يمكن تسميته «المؤسسة الوحيدة» التي تحمي ليني. لذا، عندما يعجز جورج عن الحماية، لا يجد ليني أي شبكة أمان اجتماعي تلتقطه، بل يجد المطاردة والرغبة في الانتقام والقتل.
حلم المزرعة في يوتوبيا مستحيلة
طوال أحداث فئران ورجال، يكرر ليني وجورج حلمهما بامتلاك مزرعة صغيرة حيث يمكن ل ليني أن يرعى الأرانب. هذا الحلم يمثل الرغبة العميقة في الأمان والاستقلالية والكرامة التي يفتقدها ذوو الإعاقة. حسب تحليل أدبي في موقع SparkNotes، فإن المزرعة كانت ترمز إلى الملاذ الآمن الذي لا يتعرض فيه ليني للتنمر أو الخوف من ارتكاب الأخطاء.
للأسف، ينتهي هذا الحلم بالتبدد، مما يعكس نظرة شتاينبيك التشاؤمية لواقع ذوي الإعاقة في ظل نظام رأسمالي واجتماعي لا يرحم. بمعنى آخر، أراد الكاتب أن يقول إن المجتمع لا يتسع لأحلام ليني وأمثاله.
ونصل هنا إلى الزاوية الأكثر جدلا في فئران ورجال، وهي مشهد النهاية حيث يقوم جورج بإطلاق النار على مؤخرة رأس ليني وهو يحدثه عن حلم الأرانب. وفقا لأرشيف جمعية المكتبات الأمريكية (ALA)، يعتبر هذا المشهد السبب الرئيسي وراء كون الرواية واحدة من أكثر الكتب التي تعرضت للمنع والمصادرة في المدارس.
السؤال الأخلاقي هنا: هل ما فعله جورج كان «قتلا رحيما» لإنقاذ صديقه من تعذيب الغوغاء؟ أم كان جريمة قتل وسلبا لحق ليني في الحياة؟ في الواقع، يطرح شتاينبيك معضلة الوصاية. هل يحق للشخص العاقل أن يقرر إنهاء حياة الشخص المعاق بحجة حمايته؟
كيف نقرأ الرواية اليوم؟
إذا قرأنا رواية فئران ورجال بمعايير حقوق الإنسان الحالية ، فإن النهاية تبدو كارثية ومرفوضة. حسب مقال في دورية Disability Studies Quarterly، يرى نقاد دراسات الإعاقة أن موت ليني ليس حلا بطوليا، بل هو إعلان فشل للمجتمع بأسره. فالحل لم يكن في القتل، بل كان يجب أن يكون في التفهم، والاحتواء، والعلاج السلوكي.
مع ذلك، يجب أن نقرأ النص في سياقه التاريخي. إذ لم يكن لدى جورج خيارات أخرى في زمن الغاب سوى أن يكون هو الجلاد الرحيم بدلا من ترك صديقه لجلادين لا يرحمون. لذا، تظل الرواية وثيقة إدانة للظروف، لا للأشخاص.
ولم يكتف شتاينبيك في فئران ورجال بتقديم ليني كنموذج وحيد للتهميش، بل ربط معاناته بمعاناة فئات أخرى. حيث نجد شخصية كروكس (عامل الإسطبل الأسود المعاق حركيا)، وشخصية كاندي (العجوز مبتور اليد). استنادا إلى مقال نقدي في New York Times، فإن شتاينبيك جمع هؤلاء المعطوبين -كما يراهم المجتمع- ليقول إن مصير الضعفاء واحد في مجتمع يقدس القوة والإنتاجية.
بسبب هذا الربط، يظهر ليني وكأنه الحلقة الأضعف في سلسلة من المستضعفين، لأنه الوحيد الذي لا يملك عقلا يدافع به عن نفسه، عكس كروكس الذي يملك وعيا حادا بوضعه.
أهمية الحماية القانونية
تعلمنا رواية فئران ورجال درسا قاسيا عن خطورة غياب القانون الذي يحمي ذوي الإعاقة الذهنية. فلو كان ليني يعيش في عصرنا الحالي، لكان خضع لمحاكمة تراعي حالته العقلية، ولتم إيداعه في مصحة للعلاج بدلا من قتله أو إعدامه. إن وفاة شتاينبيك تذكرنا بأن الأدب ليس مجرد قصص للتسلية، بل هو مرآة تكشف عيوبنا التشريعية والأخلاقية.
لذلك، فإن النضال من أجل حقوق ذوي الإعاقة هو نضال من أجل ضمان ألا تتكرر مأساة ليني مرة أخرى في الواقع. علينا أن نبني عالما يكون فيه ليني آمنا دون الحاجة لمسدس جورج.
وختاما.. تظل رواية فئران ورجال علامة فارقة في تاريخ الأدب الإنساني. ورغم مرور عقود على وفاة جون شتاينبيك، إلا أن صرخته لا تزال مدوية. لقد قدم لنا شخصية ليني سمول لتكون تذكيرا دائما بأن القوة الجسدية لا تعني شيئا بلا حماية، وأن العجز الذهني لا يسقط الحق في الحياة.
دعونا نتذكر شتاينبيك اليوم بقراءة روايته بعيون جديدة، عيون تبحث عن العدالة والرحمة لكل ليني يعيش بيننا.


.png)


















































