327 كيلو متر هي المسافة بين القاهرة وخان يونس، لكن صوت السيدة «لما»، والدة الطفلة الفلسطينية نايا أبو ريدة على الهاتف، كأنه قادم من زمن آخر، لا علاقة له بالأمكنة، صوت نقي وصافٍ بدون ضوضاء حوله، وكأنه يعيش في عزلة تامة، صوت يفتقد إلى الونس، ولا يجد من يغيثه.
ابنتها «نايا» التي تعاني من مرض فشل أطباء غزة في تشخيصه، في حاجة ماسة إلى السفر للخارج، ووزنها يتناقص يوماً بعد آخر، نتيجة عدم وجود الطعام، في الوقت الذي يرقد فيه والدها داخل الخيمة بعد أن أصيب برصاصة في رأسه وهو يحاول أن يجلب لها الطحين، ليعود مدرجاً بالدماء التي اختلطت بالدقيق!

تقول الأم لـ«جسور»: «قبل 4 سنوات ولدت ابنتي «نايا» طفلة طبيعية لا تعاني من أي مشكلات، ومع اندلاع الحرب واستمرارها دون هوادة، ومعاناتنا في الحصول على الطعام ساءت حالتها، ومع عدم توفر الأدوية والمقويات والفيتامينات تراجعت صحتها، وخف وزنها، ولم تعد قادرة على الحركة، وأنا جالسة بجوارها في انتظار معجزة لا تأتي! »

تحلم السيدة «لما» بسفر ابنتها إلى أي بلد لتنقذها من موت يحوم حولها كل يوم، ولا تجد في يدها ما تدفعه به، تقول: «قل الغذاء فصار جسدها يضعف، وأصبحت غير قادرة على الجلوس أو الوقوف أو المشي.. لم تعد كما كانت قبل الحرب، ومع عرضها على الكثير من الأطباء والمستشفيات عجز الجميع عن تشخيص حالتها، وقالوا إن الوضع لا يسمح بأي شيء في ظل استمرار الحرب».
قدمت «لما» طلب تحويل لابنتها لتتلقى العلاج في الخارج، وقيل لها انتظري دورك، ومضى عام والدور لا يريد أن يأتي، وتخاف أن يأتي ولا يجد «نايا».

كل صباح تستيقظ «لما» لتبحث عن طعام لابنتها – أي طعام – وكل ما تستطيع أن تقدمه لها في اليوم «فتة خبز بالماء»، وأحياناً لا تجد الخبز فتقدم لها الماء فقط، ما جعلها إذا حصلت على كمية صغيرة من الطعام تحرم نفسها وزوجها وابنها سمير وابنتها مرح حتى تبقي الطعام لـ«نايا» من أجل أن تظل على قيد الحياة ليوم آخر!
تقول لما: ليس الأطباء والطعام والأدوية والحفاضات هي كل ما تفتقده «نايا»، إنها أيضاً تعيش في خيمة متهالكة لا تسمح لها بالنوم، إضافة إلى استمرار فعل النزوح الذي لا يتوقف، وفي كل مرة أحمل ابنتي «لما» وأمضي بها عشرات الكيلومترات، وبمجرد أن نستقر ليومين يطالبنا جنود الاحتلال بالنزوح مرة أخرى.

كل ما حصلت عليه «نايا» من دعم حتى الآن، كما تقول والدتها لـ«جسور» هو منشور على الفيسبوك كتبه الصحفي عمرو طباش الذي تواصل معها حين عرف بحالتها، ليعرضها على مواقع التواصل على أمل أن تحظى بالتعاطف من أي شخص أو جهة ويتم إنقاذها، قبل أن تلحق بشقيقها الأكبر «أحمد» الذي توفي في ظروف مشابهة.
أحمد هو الابن الأكبر للسيدة «لما» أنجبته عام 2014 وقت الحرب على غزة أيضاً.. تقول «لما»: «مع بداية هذه الحرب أصيب أحمد بتكيسات مائية بالدماغ، ولم أجد طبيباً يساعدني لإجراء عملية جراحية له، ليظل بجانبي وروحه تتسرب من جسده يوماً بعد آخر، ومع قلة الطعام أخذ جسده ينحف، ومع عدم وجود الدواء تدهورت صحته، وأصيب بتشوهات في الدماغ، ليرحل في العام الماضي، يرحل في الحرب كما جاء في الحرب».

يسود الصمت قبل أن يعود صوت «لما» من جديد، وهي تحكي عن أبيها الذي فقدته أيضاً في هذه الحرب، وتقول بصوت هامس وكأنها تحدث نفسها: «يعني أنا بنت شهيد، وأم شهيد، وزوجة مصاب».
وأخيراً يختفي صوت «لما» كما جاء، يختفي بعد أن بلغت رسالتها إلى من يهمه الأمر.. ولكن السؤال: هل هناك بالفعل من يهمه الأمر؟!