يبرز فيلم «ضي» كعمل سينمائي عربي يحمل على عاتقه مهمة جريئة. وهي تحدي المفاهيم السائدة عن المهق (Albinism) وتقديم قصة إنسانية عميقة. تتجاوز المظهر الخارجي.. ومن ثم يطرح التساؤل: هل يعد المهق إعاقة جسدية ونفسية واجتماعية تفرض العزلة على صاحبها؟.
كشفت الأبحاث أن الإجابة عن هذا السؤال تتجاوز مجرد التعريف الطبي للحالة، لتمتد إلى التأثيرات النفسية والاجتماعية العميقة التي يفرضها المجتمع على المصابين. وفي هذا السياق، يعمل الفيلم كمرآة تعكس الواقع، بينما يقدم في الوقت نفسه سردية جديدة ومختلفة عن السائد في الثقافة الشعبية.
بدر محمد يروي سيرة اهل الضي
يروي فيلم ضي قصة بدر الشاب المصاب بالمهق. الذي ينطلق في رحلة ملحمية عبر محافظات مصر يرافقه صوته الآسر وحلمه الذي قد يبدو بعيد المنال. الفيلم بطولة بدر محمد وأسيل عمران وإسلام مبارك وحنين سعيد. من تأليف هيثم دبور وإخراج كريم الشناوي.
ولا يمكن فهم القصة الإنسانية لمرض المهق بمعزل عن أبعادها المتعددة. التي تشمل الجانبين الطبي والاجتماعي على حد سواء، إنها حالة لا تقتصر على المظهر. بل هي مجموعة من التحديات المترابطة التي تشكل واقعًا معقدًا للمصابين بها في جميع أنحاء العالم.

يعرف المهق بأنه اضطراب وراثي يولد به الشخص. ويتميز بنقص كامل أو جزئي في مادة الميلانين. وهي الصبغة الطبيعية المسؤولة عن لون الجلد. والشعر، وقزحية العين، ورغم أن المهق ليس له علاج شافٍ، إلا أنه ليس مرضًا معديًا.
ويعد «المهق الجلدي البصري» هو النوع الأكثر شيوعًا، حيث يؤثر على جميع مناطق الجسم التي تحتوي على الميلانين. أما «المهق البصري» فهو يؤثر بشكل رئيس على العينين فقط.
بماذا يصنف المهق؟
تعد مشاكل الرؤية سمة رئيسية ومميزة لجميع أنواع المهق، وتصنف كإعاقة بصرية دائمة.والتحديات الجسدية لمرض المهق، من ضعف البصر إلى هشاشة الجلد. هي إعاقة طبية لا يمكن إنكارها، لكنها إعاقة يمكن التعامل معها، إنها في جوهرها ليست سببًا للعزلة. إلا حينما تتضافر مع المفاهيم الاجتماعية الخاطئة.

تتجاوز التحديات التي يواجهها المصابون بالمهق البصري والجلدي لتصبح عبئًا نفسيًا واجتماعيًا ثقيلًا. فغالبا ما يتعرضون للتمييز السلبي، والتنمر، والمضايقات بسبب مظهرهم، مما يؤدي إلى الوصم والنبذ الاجتماعي. ويمكن أن يكون رد فعل الآخرين تجاههم سلبيا، مما يؤثر على صحتهم النفسية والعاطفية.
إن ما يعانيه المصابون بالمهق هو مفارقة جوهرية: فهم «مرئيون» بشكل مفرط بسبب مظهرهم، ولكنهم في الوقت نفسه «غير مرئيين» أو مهمشون اجتماعيًا بسبب سوء الفهم العميق لحالتهم. ويتضح هذا التهميش أيضًا في مواجهتهم للعقبات التعليمية والوظيفية التي تنبع من ضعف البصر غير المصحح أو من التمييز الاجتماعي.
المهق في السينما العالمية
فيما أثبتت الدراسات أن إعاقة المهق لا تقتصر على الجانب الجسدي، بل هي إعاقة اجتماعية ونفسية، تفرضها بيئة لا تستوعب الاختلاف، وهذا ما يجب أن يكون النقطة المحورية لأي سردية فنية تسعى لتمثيل هذه الحالة بدقة وعمق.
قبل ظهور أفلام مثل «ضي»، كانت السرديات الفنية التي تتناول المهق منحازة بشكل صارخ. حيث قامت السينما العالمية ببناء قوالب نمطية ضارة ساهمت في تعزيز المفاهيم الخاطئة والتحيزات.
لعدة عقود، كانت السينما تفضل تصوير الأشخاص المصابين بالمهق كأشرار أو كائنات شيطانية أو كغرباء. لقد أصبح «المهق الشرير» شخصية نمطية في هوليوود منذ ستينيات القرن الماضي. حيث يتم استخدام مظهر الشخصية كاختصار بصري للإشارة إلى جنونها أو قسوتها أو انحرافها. وتظهر أمثلة على ذلك شخصيات مثل «السيد جوشوا» في فيلم «Lethal Weapon» ، و«بوزي» في «Cold Mountain».
تستغل هذه الاستعارة البصرية ارتباط المهق بصفات خارقة أو مخيفة، ويشير الخبراء إلى أن مظهر المصاب بالمهق، ببشرته الشاحبة وعيونه الفاتحة، يشبه بشكل سطحي المخلوقات المرتبطة بالشر والموت في الوعي الجمعي، مثل مصاصي الدماء أو الزومبي.
التشخيص الطبي لمرض المهق
هذه الشخصيات النمطية غالبًا ما تتجاهل تمامًا الجانب الأكثر أهمية في حالة المهق، وهو ضعف البصر، ففي الأفلام يكون هؤلاء الأشرار سريعين وقاتلين ومتقنين لمهامهم، مما يتناقض بشكل كبير مع الواقع الطبي للمهق، حيث تعتبر الرؤية الضعيفة جزءًا لا يتجزأ من الحالة، وهذا التجاهل يعمق من فكرة أن هذه الشخصيات الشريرة هي مجرد اختصار بصري، لا علاقة له بالواقع.

وسط هذا المشهد السينمائي النمطي، يبرز فيلم «ضي» كعمل مهم في السينما العربية، ليس فقط لجرأته في تناول موضوع نادر، بل أيضًا لتقديمه سردية إنسانية جديدة تتحدى القوالب المألوفة، فبدلًا من استخدام المهق كسمة سطحية لشخصية شريرة أو غريبة الأطوار، يضع الفيلم مصابًا بالمهق في مركز الحبكة، ويجعل من رحلته محورًا أساسيًا للقصة.
فيلم ضي ومحاولة كسر الصورة النمطية
بنية الفيلم التي تتبع رحلة الشاب إلى القاهرة لتحقيق حلمه، هي أداة سردية قوية تسمح للجمهور بالتعايش مع التحديات التي يواجهها البطل، والشهادة على صراعه من أجل الاندماج الاجتماعي وتحقيق الذات، وهذا يختلف تمامًا عن الأفلام التي تستخدم المهق كمجرد عنصر إثارة أو غرابة.
وختامًا يمكننا القول إن هذا الفيلم لا يمثل نهاية المطاف، بل هو بداية والتحدي الآن هو بناء على ما قدمه «ضي» والخروج من دائرة النمطية بشكل كامل، والمسؤولية تقع على عاتق صناعة الإعلام والثقافة لتقديم قصص أكثر عمقًا وتنوعًا، تظهر الأشخاص المصابين بالمهق في كل أبعادهم الإنسانية، بعيدًا عن الصور الشيطانية أو النمطية، فعنوان الفيلم «ضي» يعني النور، وهذا ما يمثل الفيلم، حيث شعاع من الضوء يسلط على قصة إنسانية لم تأخذ حقها في الظهور.


.png)


















































