«قهوة بطعم الإرادة».. مقهى بمصر الجديدة يديره أبطال من ذوي الإعاقة

«قهوة بطعم الإرادة».. مقهى بمصر الجديدة يديره أبطال من ذوي الإعاقة

المحرر: محمود الغول - مصر
صورة جماعية للعاملين بمقهي سوكس وجميعهم من ذوي الإعاقة

في قلب منطقة الكوربة بحي مصر الجديدة بالقاهرة، وبين المقاهي والمطاعم التي تضج بالحياة، يختبئ مكان صغير لكن صوته مسموع، ليس من خلال الضجيج، بل من خلال أثره العميق، وبداية معرفتي بالأمر كانت من خلال بعض المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصا فيسبوك وإنستجرام، وهي الأكثر انتشارا وتأثيرا بين المصريين.

هنا في Socks Coffee لن تجد مجرد طاولات خشبية وفناجين قهوة، بل ستجد قصة مكتوبة بحروف من أمل وشغف، أبطالها شباب من ذوي الهمم ، يقفون خلف ماكينة الإسبريسو ليصنعوا مشروباتهم بحب، وفي الوقت نفسه يصنعون واقعا جديدا لأنفسهم ولغيرهم.

الفكرة التي ولدت هذا المشروع كانت بسيطة في ظاهرها، لكنها عميقة في رسالتها وهي ببساطة تمكين ذوي الهمم ليكونوا فاعلين، منتجين، وقادرين على إدارة مكانهم بالكامل.

قصة المقهى بدأت من تجربة شخصية للمؤسسين، إذ أن اثنين منهم لديهما أبناء يعانون من اضطرابات نمائية، وليست حركية، ما جعلهم يدركون التحديات التي يواجهها هؤلاء الشباب في الاندماج المهني والاجتماعي، هذه التجربة دفعتهم للتفكير في إنشاء مساحة عمل حقيقية، تقدر الموهبة والقدرة بدلا من التركيز على الإعاقة، وتفتح الباب أمام تمكين فعلي، بعيد عن المساعدات الرمزية أو المبادرات المؤقتة.

ومن الجوانب الملهمة في المشروع أن المقهى لا يكتفي بتوفير فرص العمل لذوي الهمم، بل يخصص 80% من أرباحه لدعم أعمال الخير والمبادرات المجتمعية، هذا القرار يعكس فلسفة المكان التي تقوم على العطاء المتبادل، حيث يصبح نجاح المشروع وسيلة لدعم فئات أخرى من المجتمع، ما يجعل كل فنجان قهوة يقدم هناك جزءا من دائرة أوسع من التأثير الإيجابي.

المؤسسون لم يرغبوا في مبادرة شكلية أو عمل خيري تقليدي، بل سعوا لخلق نموذج عمل حقيقي، يحترم قدرات الشباب، ويمنحهم بيئة عمل تدربهم، تثق بهم، وتدفعهم لتقديم أفضل ما لديهم.

أبطال يُعدون فنجان قهوتك

كل من يزور المقهى الصغير يشعر أن المكان يرحب به بحرارة خاصة. فريق العمل لا يقدم الخدمة كوظيفة روتينية، بل كفرصة للتواصل الإنساني، المشروبات التي يقدمونها من القهوة بشكلها التقليدي في مصر إلى الفرايبوتشينو  تحضر بدقة وحرفية، لكن خلف كل كوب هناك قصة حيث يد تتحدى صعوبة الحركة، أو ابتسامة تقهر صمت الإعاقة السمعية، أو عين ترى العالم بزاوية مختلفة لكنها مليئة بالجمال.

المقهى لم يكتف بزائريه في الكوربة، بل فتح نافذة واسعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة إنستجرام وتيك توك، من خلال هذه المنصات، تروى قصص العاملين، وتشارك لقطات يومية من حياتهم في المقهى، مصحوبة بتعليقات الزبائن التي تتحدث عن الإتقان، الدفء، والروح الإنسانية التي تملأ المكان.

هذه الفيديوهات والصور تجاوزت فكرة الترويج، لتصبح أداة لرفع الوعي المجتمعي وتغيير النظرة التقليدية لذوي الهمم. داخل المقهى الوجوه المألوفة للعملاء ليست مجرد موظفين، بل قصص حية: أسماء، يحيى، ياسين، يوسف، ورحمة.. «شباب زي الورد» كما يقول المصري، يعملون جميعا بروح الفريق ويمنحون المكان طابعا عائليا خاصا، ورغم أن ساعات العمل اليومية محدودة – من الخامسة مساء حتى الثامنة – إلا أن هذه الساعات القليلة تمتلئ بالحيوية والابتسامات، وكأنهم يضغطون طاقة اليوم كله في ثلاث ساعات من العطاء.

من أبرز الوجوه في المكان، الشابة الجميلة رحمة خالد، من متحدي متلازمة داون في العشرين من عمرها، تدرس في كلية الآداب بجامعة عين شمس، وتوازن بين الدراسة والعمل، وبين شغفها بالقهوة وإنجازاتها الرياضية. رحمة ليست فقط عاملة في المقهى، بل بطلة العالم في الجمباز الإيقاعي، ما يجعلها نموذجا حيا على أن الطموح لا يعرف حدودا.

العاملين بمقهي سوكس من ذوي الإعاقة

أما أسماء، فهي فتاة جميلة أخرى، محبة للفن والموسيقى  تقول بابتسامة دافئة إنها تعشق سماع الأغاني، وتجد في إعداد القهوة متعة خاصة، كما تحب الرسم الذي يعكس شخصيتها المرحة وحسها الإبداعي، أسماء دائما في استقبال ضيوف المكان، وابتسامتها وحفاوة ترحيبها تجعلان الزائر يشعر وكأنه بين أصدقائه لا في مقهى تجاري.

إدارة المقهى  نشرت مجموعة من اللوحات الإرشادية داخل المقهى وخارجه تهدف إلى توجيه الزبائن حول كيفية التعامل مع فريق العمل المميز من ذوي الاحتياجات الخاصة وذوي الهمم، وهذه اللوحات ليست مجرد تعليمات تقليدية، بل جاءت بشكل دافئ ومصمم بحس عالي من الاحترام والتقدير، تحث الزوار على الصبر واللطف، وتشجيع التفاعل الإيجابي مع العاملين، وفهم التحديات التي قد يواجهونها أثناء أداء مهامهم.

كما تشرح اللوحات أهمية دعم هذه المبادرة الاجتماعية من خلال احترام مكان العمل، والمساعدة في خلق أجواء هادئة ومريحة تناسب الجميع.

وقد لاقت هذه البادرة استحسان الزبائن الذين عبروا في تعليقاتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن تقديرهم لهذا الاهتمام الكبير بالتفاصيل التي تعزز من تجربة الزائر وتكرس روح الدمج والتمكين داخل المقهى، ما يجعل من زيارتهم ليس مجرد تجربة للقهوة المختصة، بل لحظة تواصل إنساني مميز.

نجاح المشروع لا يقاس فقط بعدد الأكواب المباعة، بل بعدد الأرواح التي تغيرت، فهذا المشروع يخلق فرص عمل حقيقية، برواتب وحقوق، ويمنح الشباب فرصة تطوير مهارات مهنية واجتماعية تجعلهم قادرين على المنافسة في سوق العمل.

هذا النموذج يثبت أن الدمج ليس إحسانا، بل استثمار في طاقات كانت مهمشة، يمكن أن تتحول إلى قوة إنتاجية تضيف للمجتمع والاقتصاد، اللافت أن الفكرة حظيت بدعم واسع، ليس فقط من الزبائن الذين يترددون على المكان، بل أيضا من المجتمع المحلي ورواد السوشيال ميديا الذين يروجون له تلقائيا.

الكثيرون يعبرون في تعليقاتهم عن إعجابهم بجودة القهوة، وعن الأجواء التي تمزج بين الاحترافية والإنسانية. بعضهم يعتبر الزيارة “تجربة تترك في القلب أثرا” قبل أن تترك في الفم طعم القهوة.

ما يقوم به Socks يجد أصداء في تجارب مشابهة حول العالم وفي مصر، فهناك مطاعم ومبادرات مشابهة مثل “ماما محروسة” التي تشغل ذوي الاحتياجات الحركية، وفي الخارج هناك مشاريع رائدة مثل Mitti Café في الهند، وCafé Joyeux في فرنسا، وGive & Take Coffee في الصين وسنغافورة، جميعها تشترك في نفس الرسالة: أن الدمج والتمكين ممكنان، وأن الإعاقة ليست نهاية الحلم.

كل فنجان يقدم في هذه الأماكن ذات التوجه نحو دمج ذوي الهمم في مجتمعاتهم بشكل طبيعي وسلس هو أكثر من مشروب، هو رسالة مكتوبة برغوة القهوة: نحن هنا، نعمل، نبدع، ونشارك في بناء مجتمعنا.

هذا المقهى ليس فقط قصة نجاح، بل دعوة مفتوحة لأن يصبح االدمج المجتمعي جزءا طبيعيا من حياتنا اليومية، حتى يأتي يوم لا نحتاج فيه لتسليط الضوء على هذه النماذج.. لأنها ستكون القاعدة لا الاستثناء.

المقالة السابقة
الجوع يواصل حصد الأرواح.. الطفل جمال فادي ينضم لقائمة شهداء غزة  
المقالة التالية
تمكين عبر التكنولوجيا.. مبادرة جديدة لذوي الإعاقة في جنوب أفريقيا

وسوم

أصحاب الهمم (43) أمثال الحويلة (387) إعلان عمان برلين (391) اتفاقية الإعاقة (519) الإعاقة (70) الاستدامة (680) التحالف الدولي للإعاقة (687) التشريعات الوطنية (508) التعاون العربي (400) التعليم (36) التعليم الدامج (36) التمكين الاقتصادي (50) التنمية الاجتماعية (679) التنمية المستدامة. (47) التوظيف (33) التوظيف الدامج (640) الدمج الاجتماعي (570) الدمج المجتمعي (106) الذكاء الاصطناعي (55) العدالة الاجتماعية (52) العقد العربي الثاني لذوي الإعاقة (393) الكويت (54) المجتمع المدني (677) الولايات المتحدة (47) تكافؤ الفرص (671) تمكين (39) حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (482) حقوق الإنسان (58) حقوق ذوي الإعاقة (68) دليل الكويت للإعاقة 2025 (367) ذوو الإعاقة (85) ذوو الاحتياجات الخاصة. (650) ذوي الإعاقة (242) ذوي الهمم (40) ريادة الأعمال (380) سياسات الدمج (663) شركاء لتوظيفهم (375) قمة الدوحة 2025 (367) كود البناء (366) لغة الإشارة (39) مؤتمر الأمم المتحدة (329) مجتمع شامل (671) مدرب لغة الإشارة (545) مصر (30) منظمة الصحة العالمية (564)