القاهرة – جسور – فاطمة الزهراء بدوي
صدر مؤخرًا كتاب يحمل عنوان Disability in Ancient Egypt and Egyptology: All Our Yesterdays ، يعيد تأطير تاريخ مصر القديمة ودراسة علم المصريات، من منظور مختلف، إذ يناقش الإعاقة والتنوع العصبي.
يضم الكتاب 21 مقالة متخصصة، كتبها باحثون وباحثات من خلفيات متنوعة، ويسعى لتقديم سرد بديل وشامل، لتجربة الإعاقة في وادي النيل، سواء في الماضي البعيد أو في تاريخ علم المصريات نفسه خلال القرنين الماضيين.

تقدم المقالات رؤية نقدية وتحليلية تستند إلى مصادر متعددة: بقايا بشرية، نصوص هيروغليفية، رسومات جدارية، نقوش نحتية، وقطع أثرية، ما يمنح القارئ صورة واسعة وغير تقليدية عن كيفية إدراك الإعاقة في المجتمعات المصرية القديمة، وكيف تم إسقاط تصورات متحيزة على هذه الفئة عبر الزمن، بما في ذلك داخل الأوساط الأكاديمية.
هل استخدم علم المصريات لغة اقصائية ضد ذوي الإعاقة بمصر القديمة
الكاتبة والباحثة آنا جارنيت، التي قدمت مراجعة شاملة للكتاب عبر مجلة Ancient Egypt، رأت أنه يمثل نقلة نوعية في دراسة الماضي، لما يحتويه من طروحات تعيد النظر في السرديات التقليدية التي طالما تجاهلت أو اختزلت الأشخاص ذوي الإعاقة، سواء كأفراد حقيقيين أو كرموز ثقافية. كما أبرزت أهمية المقالات التي تناولت قضايا معاصرة، منها الدور الإقصائي للغة المستخدمة في علم المصريات، وهو موضوع ناقشته الباحثة هانا فوغل في دراستها الافتتاحية، حيث دعت إلى تبنّي مصطلحات تحترم التنوع وتنبذ التحيز.
يبرز الكتاب أيضًا تحليلات معمقة حول شخصيات ملكية مثل إخناتون وتوت عنخ آمون، لطالما أثير حولهما جدل يتعلق باحتمال إصابتهما بأمراض أو إعاقات معينة. تشير بعض المقالات إلى أن هذه التفسيرات لم تكن دومًا علمية، ولكنها تكرس أحيانًا أفكارًا عنصرية وتمييزية بحق المصريين القدماء، كما تحمّل نظرة استشراقية مشوهة لصورة الفرعون “الضعيف” مقابل الآخر “القوي المثالي”.
وتلفت الدراسة التي كتبتها هانا نافراتيلوفا الانتباه إلى سيرة عالِم المصريات التشيكي ياروسلاف تشيرني، مركّزة على نضالاته النفسية التي واجهها في عمله الأكاديمي، ما يعيد فتح النقاش حول الصحة العقلية في المؤسسات البحثية، خاصةً في بيئات تتطلب أداءً ذهنيًا عاليًا وتفتقر للدعم الإنساني.
الكتاب لم يكتفِ بتحليل الماضي، ولكنه امتد ليقدم أدوات عملية لبناء مستقبل أكثر شمولًا في التعليم والمتاحف. مثال ذلك مقالة كارين إل. كوبيلارز التي تطرح توصيات تنظيمية لتصميم رحلات مدرسية تراعي احتياجات الأطفال ذوي الإعاقة، وتضمن مشاركتهم الكاملة في تجربة التعلم الميداني.
ومن الملفت أن النبرة النقدية في الكتاب لا تسعى فقط لكشف أوجه النقص، وإنما لتقديم تصورات إيجابية لما يمكن أن تكون عليه الممارسات المتحفية والتعليمية في المستقبل. رؤية تدعو القارئ لأن يتأمل كيف نكتب التاريخ، ولمن نكتبه، ومن يغيب عمدًا أو سهوًا من هذه السرديات.
الإصدار مصحوب برسومات توضيحية بالأبيض والأسود، وفهرس مفيد، وببليوغرافيات تفصيلية بنهاية كل فصل، مما يجعله مرجعًا ضروريًا للباحثين، والمعلمين، والعاملين في المتاحف، وأي مهتم بتاريخ الإعاقة من منظور ثقافي وإنساني.
أهمية هذا العمل تتجاوز حدود تخصص علم المصريات، فهو يفتح بابًا للحوار بين الماضي والحاضر حول مفاهيم الكرامة، والاندماج، وتمثيل الفئات المهمشة، ويعيد طرح سؤال جوهري: كيف يمكن للماضي أن يساهم في رسم مستقبل أكثر عدالة؟