كيف فتح فيلم «بضع ساعات في يوم ما» باب التوعية بمتلازمة توريت

كيف فتح فيلم «بضع ساعات في يوم ما» باب التوعية بمتلازمة توريت

المحرر: محمود الغول - مصر
الممثلة المصرية مايان السيد من فيلم بضع ساعات في يوم ما

شاهدت مؤخرا الفيلم المصري «بضع ساعات في يوم ما»، وهو  بجانب كونه عملا دراميا رومانسيا يروي قصصا متشابكة لمجموعة من الشباب خلال فترة زمنية قصيرة ، فإنه استطاع أن يحقق نجاحا جماهيريا ونقديا ، ليتحول من مجرد ترفيه إلى منصة حوار مجتمعي حول قضايا إنسانية عميقة.

في قلب هذا العمل، برز الأداء المتميز لمايان السيد في دور شخصية مصابة بمتلازمة توريت، وهو ما اعتبرته دورا مميزا يسلط الضوء على متلازمة توريت، إذ نجحت في تقديم نموذج إنساني مؤثر يعكس التحديات التي يواجهها المصابون، مما جعل الفيلم إضافة هامة في مسيرة السينما العربية.

وتعد متلازمة توريت أكثر من مجرد مجموعة من التشنجات الجسدية أو الصوتية اللاإرادية، فهي تمثل إعاقة اجتماعية ونفسية حقيقية تؤثر بعمق على حياة المصابين بها، في مجتمعنا غالبا ما يواجه المصابون بها نظرات غريبة، وسوء فهم، وحتى سخرية، مما يؤدي إلى شعورهم بالخجل والعزلة. هذه الوصمة الاجتماعية ليست أقل وطأة من الأعراض الجسدية للمرض، بل إنها قد تفاقمها وتتسبب في إعاقة المصاب عن المشاركة في الأنشطة اليومية والتفاعلات الاجتماعية، مما يؤدي إلى تدهور صحتهم النفسية وشعورهم بالإحباط والعجز.

اختيار إدماج شخصية مصابة بمتلازمة عصبية ضمن إطار رومانسي ودرامي يلامس تفاصيل الحياة اليومية للشباب ليس مجرد صدفة فنية، بل هو قرار واع وفعال يمنح القصة عمقا إنسانيا. فبدلا من تقديم المريض ك«حالة» معزولة أو غريبة يصبح جزءا طبيعيا من النسيج الاجتماعي، تتشابك قصته مع قصص الحب والصداقة والأحداث اليومية.

هذا النهج يسهل على الجمهور التعاطف مع الشخصية كإنسان أولا، ثم فهم معاناتها ثانيا، مما يتجاوز التوعية المباشرة إلى التوعية الضمنية، ويسهم في كسر حاجز الوصمة الاجتماعية عن طريق تطبيع الاختلاف ودمجه في الحياة اليومية بشكل غير واع.

مايان السيد.. تجسيد لا مجرد تمثيل
أشاد النقاد بأداء مايان السيد، ووصفوه ب«الواقعية» و«المهارة» وهذا عائد في نظري إلى التزام الفيلم بالبحث والتحقق، حيث أكد مؤلف الرواية محمد صادق أنه استعان بمرضى يعانون من المتلازمة لإضفاء الواقعية على النص.

ولم يقتصر دور مايان على تقليد الحركات الجسدية فحسب، بل امتد إلى تصوير العمق النفسي للمتلازمة التي هي ليست مجرد حركات، بل هي اضطراب يشتمل على حركات تكرارية أو أصوات غير مرغوب بها (حركات لا إرادية) لا يمكن السيطرة عليها بسهولة، كما أن الأعراض تتفاقم إذا كنت مريضا، أو متوترا أو قلقا أو متعبا أو متحمسا.

الممثلة المصرية مايان السيد من فيلم بضع ساعات في يوم ما
الممثلة المصرية مايان السيد من فيلم بضع ساعات في يوم ما

يعتبر تجسيد دور شخصية مصابة بمتلازمة عصبية تحديا كبيرا لأي فنان، خصوصا في سياق سينمائي عربي لم يتناول هذه المواضيع بالعمق الكافي، ونجاح مايان في هذا الدور يمثل نقلة نوعية في معالجة القضايا الإنسانية ، وربما يفتح شهية المنتجين والفنانين لتناول قضايا أكثر حساسية وتعقيدا.

هذا الأداء لم يكن مبهرا لمهارته الفنية فقط، بل لأنه تجاوز الصورة النمطية السائدة للمتلازمة، فغالبية الأفلام والبرامج التلفزيونية العالمية تصور متلازمة توريت بشكل غير دقيق ، وغالبا ما تركز على ما يعرف بالعرات الصوتية المعقدة والنادرة مثل استخدام الكلمات البذيئة (coprolalia) لأغراض كوميدية أو درامية مبتذلة، هذه الصور الخاطئة تزيد من المفاهيم المغلوطة والوصم الاجتماعي. من خلال تقديم صورة واقعية ودقيقة للمرض، أسهم الفيلم في إعادة النظر نحو هذه الصور النمطية، وجعل رسالة التقبل أكثر تأثيرا ومصداقية.

أكثر من مجرد حركات لا إرادية
متلازمة توريت (Tourette Syndrome) هي اضطراب عصبي يظهر غالبا في مرحلة الطفولة، عادة ما بين سن 2 و15 عاما، لا يوجد اختبار محدد لتشخيصها، بل يعتمد التشخيص على الملاحظة السريرية لتاريخ الأعراض، لا تدل المتلازمة على نقص في الذكاء أو القدرات العقلية ، بل يكمن التحدي في الأعراض نفسها وفي كيفية تعامل المجتمع معها، وتتنوع الأعراض بشكل كبير وتصنف إلى فئتين رئيسيتين: العرات الحركية والعرات الصوتية.

تتنوع الأعراض من البسيطة إلى المعقدة، وتختلف في شدتها وتكرارها وموقعها من شخص لآخر. قد يشعر المصابون برغبة جسدية غير مريحة تسبق العرة، يطلق عليها الرغبة المنذرة، وهي تشبه الشعور بالحكة أو التوتر الذي لا يزول إلا بتنفيذ الحركة، كما أن الأعراض تتأثر بشكل مباشر بالحالة النفسية، حيث يمكن أن تتفاقم في حالات التوتر أو القلق أو الإثارة.

تشير الدراسات إلى أن الاضطرابات المصاحبة لمتلازمة توريت، مثل اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه (ADHD) والوسواس القهري (OCD) والاكتئاب والقلق قد تكون أكثر تأثيرا على جودة حياة المريض من العرات نفسها.

التحديات الواقعية للمصابين في العالم العربي
تظهر القصص الواقعية أن أكبر التحديات التي يواجهها المصابون في العالم العربي ليست الأعراض الجسدية، بل رد فعل المجتمع ففي كثير من الأحيان، تؤدي نظرات المجتمع وهمساته إلى ألم نفسي أشد إيلاما من المرض نفسه.

قصة الشاب الجامعي «إسلام»، الذي يتمنى والده أن«الناس تبطل تتنمر على ابني» ، تسلط الضوء على المعاناة النفسية التي يعانيها المريض وعائلته، وكذلك تجربة «سالم» المحرجة في حفل زفاف عندما كان الجالسون يهمسون «هذا ولد فلان… يطلع صوت» ، مما يوضح أن الوصم الاجتماعي يمكن أن يكون أكبر عقبة أمام المصابين.

لا تقتصر التحديات على النواحي الاجتماعية فقط، بل تمتد إلى البيئات التعليمية والنفسية ففي المدارس قد تساء فهم أعراض المتلازمة على أنها «سلوكيات مقصودة» ، مما يزيد من الضغط على الطالب، كما أن المتلازمة تؤثر على احترام الذات وتجعل المصابين يترددون في المشاركة في الأنشطة الاجتماعية، مما يزيد من خطر الإصابة بالاكتئاب.

دور الفيلم يكمن في كونه صدمة إيجابية للواقع، تجبر المجتمع على مواجهة هذه المشاكل بدلا من تجاهلها، كما أنه يوجه رسالة مباشرة إلى الأهل والمربين بضرورة التثقيف والدعم.

مشهد من فيلم Front of the Class
مشهد من فيلم Front of the Class

فيما تناولت العديد من الأعمال العالمية موضوع متلازمة توريت، على سبيل المثال، فيلم Front of the Class (2008)، المبني على قصة حقيقية يركز على قصة الإلهام والتحدي، حيث يتغلب البطل على المرض ليصبح معلما ناجحا.

كذلك الفيلم الهندي   Hichki (2018)، الذي تدور أحداثه حول معلمة تحول متلازمة توريت إلى قوتها الخارقة لمساعدة طلابها، تتبنى هذه الأفلام أن «البطولة والتغلب على المرض»، بينما يبدو أن فيلم»بضع ساعات في يوم ما» يقدم قصة أكثر واقعية وهدوءا ففي هذا الفيلم، المتلازمة هي جزء من حياة الشخصية، وليست بالضرورة مركز الصراع الدرامي، مما يمنحها بعدا أكثر عمقا وإنسانية.
الحقيقة الواجب الإشارة إليها في وجهة نظري هي أن الفيلم ليس مجرد توعية بالمتلازمة، بل هو مرآة تعكس النقص الحاد في الوعي المجتمعي بالصحة العصبية، فالثقافة العربية في كثير من الأحيان قد تربط الاختلاف الجسدي أو العصبي بالوصمة أو الوهم، مما يؤدي إلى إهمال الجانب النفسي والاجتماعي للمريض، حيث يصبح التنمر والعزل تحديا أكبر من المرض نفسه.

المقالة السابقة
برلمانية مغربية تطالب بزيادة مراكز اختبارات الوظائف لذوي الإعاقة
المقالة التالية
مبادرة بجامعة سوهاج لدعم الطلاب الجدد من ذوي الإعاقة 

وسوم

أصحاب الهمم (45) أمثال الحويلة (391) إعلان عمان برلين (394) اتفاقية الإعاقة (537) الإعاقة (99) الاستدامة (889) التحالف الدولي للإعاقة (865) التشريعات الوطنية (684) التعاون العربي (416) التعليم (53) التعليم الدامج (48) التمكين الاقتصادي (63) التنمية الاجتماعية (887) التنمية المستدامة. (58) التوظيف (44) التوظيف الدامج (700) الدمج الاجتماعي (613) الدمج المجتمعي (130) الذكاء الاصطناعي (67) العدالة الاجتماعية (56) العقد العربي الثاني لذوي الإعاقة (421) الكويت (66) المجتمع المدني (876) الولايات المتحدة (50) تكافؤ الفرص (875) تمكين (61) حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (503) حقوق الإنسان (61) حقوق ذوي الإعاقة (75) دليل الكويت للإعاقة 2025 (368) ذوو الإعاقة (121) ذوو الاحتياجات الخاصة. (848) ذوي الإعاقة (422) ذوي الهمم (45) ريادة الأعمال (382) سياسات الدمج (861) شركاء لتوظيفهم (376) قمة الدوحة 2025 (509) كود البناء (371) لغة الإشارة (46) مؤتمر الأمم المتحدة (330) مجتمع شامل (868) مدرب لغة الإشارة (579) مصر (39) منظمة الصحة العالمية (599)