في إحدى القرى المتواضعة على أطراف السودان حيث البيوت الطينية البسيطة، والحياة التي تتقاسمها مشقة الزراعة وقسوة الفقر، تعيش عائلة حسب الله آدم، وهي عائلة صغيرة في العدد لكنها كبيرة في معاناتها، إذ اجتمع على أفرادها مرض قاس يعرف في الأوساط الطبية بـ«الماء الأسود» أو الجلوكوما، وهو مرض يفتك بالنظر ببطء حتى يسرق البصر في صمت.
هذه العائلة التي تكاد تكون منسية بين ركام الأزمات التي يمر بها السودان، تقدم نموذجًا موجعا لكيف يمكن أن يتحول المرض الوراثي إلى لعنة تتناقلها الأجيال، ويضاعفها غياب الرعاية الصحية وارتفاع تكاليف العلاج وقلة الوعي المجتمعي بخطورته.
مرض الماء الأسود ليس مرضا عاديا يمكن تجاهله أو التكيف معه، بل هو اعتلال تدريجي للعصب البصري يؤدي في النهاية إلى العمى إن لم يكتشف مبكرا ويُعالج، وتقول الأبحاث الطبية إن هذا المرض غالبا ما يسير ببطء وصمت فلا يشعر المريض به إلا بعد فوات الأوان، حين يكون الجزء الأكبر من مجال الرؤية قد تلاشى.
في عائلة حسب الله كان الأمر قدر لا مهرب منه، حيث الجد أصيب به قبل عقود وظن الأبناء أن الأمر حالة فردية، لكن مع مرور السنوات بدأت الأعراض تظهر على أكثر من فرد، ليتضح أن الجلوكوما قد غرزت أنيابها في الجينات وأخذت تنتقل من جيل لآخر.
متى سيحين دوري في العمى؟
المرض بالنسبة لهذه العائلة لم يعد مجرد إصابة صحية، بل صار جزءًا من حياتهم اليومية، يفرض على كل فرد أن يعيش بقلق دائم.. متى سيحين دوري؟ وهل سأفقد بصري مثل أبي وأخي وعمي؟
المشكلة تتفاقم بفعل الظروف الاقتصادية فالفقر الذي تعيشه العائلة يجعل حتى فكرة الكشف المبكر أو متابعة الأطباء حلمًا بعيد المنال، إذ أن تكلفة الفحوص الأولية وحدها قد تعادل دخل أسرة كاملة لشهرين أو ثلاثة، فما بالك بعمليات الليزر أو الجراحة أو الأدوية المستمرة مدى الحياة.
يقول أحد أبناء العائلة بصوت يحمل مزيجًا من الإحباط والأمل إنهم في بعض الأحيان يضطرون للاختيار بين شراء الدواء أو شراء الطعام، وفي بلد يعاني من تضخم اقتصادي وانهيار في الخدمات، تصبح الأولويات واضحة وهي البقاء على قيد الحياة أولا حتى لو كان الثمن هو فقدان البصر.
العديد من أفراد الأسرة خضعوا لفحوص متأخرة جدا، بعد أن أصبح الضرر شبه دائم، بعضهم فقد معظم قدرته على الإبصار والبعض الآخر يعيش بعين واحدة ترى بالكاد، فيما يترقب البقية مصيرهم بقلق مكتوم.

الجانب المأساوي الأكبر في القصة أن مرض الماء الأسود، في حالة عائلة حسب الله وراثي، أي أن الأطفال معرضون بشكل كبير لحمل نفس الجينات التي تحمل الخلل، وهنا تتحول المسألة من مأساة فردية إلى «رطة عائلية، إذ يكبر الأطفال وهم يعلمون أن هناك شبحا ينتظرهم عند ناصية العمر.
في المجتمعات الفقيرة حيث ينعدم التثقيف الصحي يصبح من الصعب إقناع الناس بأهمية الفحص المبكر.. كثيرون يرون أن الطفل طالما يرى الآن فلا داعي للقلق، لكن الطب يقول غير ذلك، والجلوكوما على وجه الخصوص يحتاج إلى متابعة منذ الصغر لتأخير مضاعفاته.
المؤلم في مثل هذه الحالات أن المجتمع في الغالب يتعامل مع الأمر بسطحية أو إنكار، بعض الجيران يفسرون فقدان البصر عند أفراد العائلة بأنه عين أو حسد، فيما يرى آخرون أنه ابتلاء طبيعي لا جدوى من مقاومته، وهذه النظرة التقليدية تجعل المعركة أكثر صعوبة لأنها تلغي قيمة العلاج وتقلل من أهمية التوعية.
أما الدولة، فغائبة بشكل شبه كامل، حيث السودان يعاني منذ سنوات من تراجع كبير في مستوى الخدمات الصحية، وغياب الاستراتيجيات الوقائية.. في بلد تزيد فيه نسب الفقر والبطالة لا توجد برامج وطنية للكشف المبكر عن أمراض العيون، ولا حملات توعية عن خطورة الجلوكوما، التي تصيب ملايين حول العالم.
عائلة حسب الله ليست سوى عينة من مئات وربما آلاف الأسر السودانية التي تواجه المصير نفسه، لكن قصتها تكشف حجم الفجوة بين الواقع والاحتياج.
لا نريد معجزات.. فقط فرصة للعلاج
في حديث مع أحد أفراد الأسرة للصحافة المحلية، بدا صوته مبحوحا من شدة الألم، لكنه متمسك بالأمل: «لا نريد معجزات، ولا نطلب شيئا صعبا، على الأقل يكون في مركز صحي قريب منا، يكون هناك كشف دوري لأولادنا، نقدر نعرف أين نحن قبل أن يسيطر العمى علين».
هذا النداء البسيط يلخص معاناة مئات الأسر.. ليس هناك ما هو أقسى من أن تعيش حياتك كلها وأنت تعرف أن بصرك يتلاشى ببطء، بينما لا تملك القدرة على فعل شيء حيال ذلك.
القضية إذن أكبر من مجرد قصة عائلة إنها نموذج لواقع صحي ينهار في بلد يحتاج بشدة إلى دعم دولي ومحلي، ومنظمة الصحة العالمية تؤكد أن الجلوكوما هو السبب الثاني عالميًا للعمى بعد إعتام عدسة العين، وأن الملايين في إفريقيا معرضون للإصابة به دون أن يدركوا.
ورغم كل هذه التحديات لا تزال عائلة حسب الله تتمسك بخيط رفيع من الأمل، فهم يعتقدون أن بوسع المجتمع المدني والمنظمات الإنسانية أن تتدخل، وأن قصتهم ربما تصل إلى من يملكون القدرة على المساعدة.