لم يكن الصمت خيارًا لمارك، بل قدراً فاجأه وهو طفل لم يكمل عامه الأول، استيقظت أذناه على عالم بلا أصوات، ثم لحقه شقيقاه في الرحلة ذاتها، وكأن الحياة قررت أن تختبر قوتهم معًا.
لكن بين جدران هذا البيت، لم يكن هناك مكان للحزن، والده ووالدته أصرّا أن يُبدّلا وقع الصدمة إلى طاقة حب، وأن يُعلّما أبناءهما أن فقدان السمع لا يعني فقدان الحياة، بل بداية لصناعة معجزة..
مارك قسطنطين رئيس الإتحاد اللبناني لرياضات الصم يحكي عن رحلته لـ ” جسور ” :”ولدتني أمي طفل سامع، ولكن أصبحت أصماً فجأة بعد عامي الأول دون سبب واضح، ولم أكن وحدي في هذه الرحلة، بل فقد أخواي الاثنان سمعهما أيضا، وسام أخي الأكبر في عمر السنة تقريباً، وأخي الأصغر رالف في عمر السنتين وشهرين، ومع ذلك لم يفقدا والديا الأمل، بل واصلا حياتهما واهتما بنا وأحبّانا وشجّعانا بفخر كبير.

وعندما بلغت الحادية عشرة من عمري، اكتشفت أنني أصم ومختلف عن الطلاب في المدارس العادية، لكني لم أشعر بالخجل أو الحزن. كنت فخورًا بنفسي وبقدرتي على التعلم. كنت دائم الاجتهاد في دراستي، ونجحت بتفوق في مدرسة التدريب على السمع والنطق “إيراب” للصم، تفوقي هذا أدهش المعلمات والإداريين، فشجعنني على متابعة دراستي الثانوية في مدرسة سيدة اللويزة.
كان الأمر صعبًا للغاية بسبب اختلاف الأجواء بين مدرسة الصم والمدرسة العادية، لكنني بذلت جهدًا كبيرًا حتى نجحت، كان هذا أول تحدٍ حقيقي أواجهه، وبه أصبحتُ أول طالب أصم يتخرج من قسم العلوم العامة في مدرسة ثانوية غير متخصصة بالصم في لبنان.
ويستكمل حديثه :” بعدها، واصلت طريقي الأكاديمي والتحقت بجامعة سيدة اللويزة NDU، حيث درست لمدة أربع سنوات كاملة وحصلت على شهادة في علوم الكمبيوتر وتكنولوجيا المعلومات، وبعد تخرجي بدأت مسيرتي المهنية في شركة ألفا للاتصالات، إحدى كبرى شركات لبنان، حيث عملت في القسم المالي لمدة عشر سنوات متواصلة، حتى جاء وقت مغادرتي لبنان.

لكن منذ صغري كان لي حلم آخر، وهو أن انضم للمنتخب اللبناني لكرة السلة للصم. لم يتحقق الحلم في البداية، لأنه لم يكن هناك اتحاد رياضي للصم من الأساس، وكانت المؤسسات التربوية تركّز فقط على التعليم، بينما ينشغل الأهالي بتأمين لقمة العيش.
انتظرت طويلًا حتى عام 2016، ودخلت في تحد مع نفسي بأن أجرب تكوين منتخب الصم لكرة السلة وأبحث عن راعٍ مدعوم بثقة وعدد من أصدقائي الرياضيين الصم، وبعد عامين من العمل، أسست نادي الصم الرياضي اللبناني، ثم دعوت الأندية الرياضية اللبنانية للصم المسجلة رسميًا لتأسيس “الاتحاد الرياضي اللبناني للصم” وأصبحت رئيس لجنة إدارة هذا الاتحاد حتى اليوم.

تابعت العمل الإداري والتمارين مع المنتخب بصفتي كابتن الفريق، تحت إشراف المدرب والداعم الروحي لنا ساكو كورجيان، حتى تحقق الحلم الأكبر وهو مشاركتنا في بطولة العالم لكرة السلة للصم في يونيو 2023 باليونان، لأول مرة في تاريخ رياضة الصم في لبنان.
مستطردا :” هناك، خضنا مباريات صعبة أمام منتخبات ذات خبرة عالية وإمكانيات كبيرة، لكننا حققنا فوزًا لا يُنسى على منتخب كينيا بفارق نقطتين، وكان ذلك من أجمل لحظات حياتنا، خاصة وسط الظروف الصعبة وغياب حقوق الصم في لبنان.
بعد أن حققت حلمي بالمشاركة في بطولة العالم لكرة السلة، قررت اعتزال اللعب بسبب تقدّم عمري والضغط الكبير الذي عشته كلاعب وكابتن للفريق ورئيس للاتحاد، وقررت أن أتفرغ لإدارة الاتحاد ومتابعة المشاركات المستقبلية، خصوصًا المشاركة في الـ Deaflympics الذي سيقام في طوكيو في نوفمبر 2025، بالإضافة إلى حلم جديد نسعى لتحقيقه وهو مشاركة منتخب السيدات لتمثيل لبنان في بطولة العالم لكرة السلة للصم عام 2027.
واضاف ماركو قائلا :” في مسيرتي هذه، لا يمكنني أن أحصي عدد الأشخاص الذين دعموني، من المدارس والجامعة والشركات والأندية، إضافة إلى أقاربي. لكن يبقى الفضل الأول والأعظم لوالديّ. ودائمًا ما أقول لهما :”بدونكما.. نحن لا شيء”.

أما شعاري في الحياة، فقد كان وسيبقى دائمًا: “لا تستسلم أبدًا في تحقيق أحلامك”، ونصيحتي لكل الأشخاص ذوي الإعاقة أن يتمسكوا بأحلامهم ويحاولوا تحقيقها مهما تكررت المحاولات، وأن يثقوا بأنفسهم ولا يصغوا إلى الكلمات السلبية التي تقول إنهم لا يستطيعون أو أن الأمر مستحيل، وأن يعملوا بجد كبير وصبر أكبر حتى يصلوا إلى ما يريدون، وباسمي واسم كل الصم وأهلهم أطلب منكم استخدام كلمة “الصم” فقط، وليس “الصم والبكم” فقد أصبحنا قادرين على التواصل، وبعدة لغات.
الصم، ذوي الإعاقة، الإتحاد اللبناني، كرة السلة ، لبنان ، اتفاقية الإعاقة، الإعاقة، الاستدامة، التحالف الدولي للإعاقة، التشريعات الوطنية، التعاون العربي، التعليم، الدامج، التمكين الاقتصادي، التنمية الاجتماعية، التنمية المستدامة، التوظيف، الدامج، الدمج الاجتماعي، الدمج المجتمعي، الذكاء الاصطناعي، العدالة الاجتماعية، العقد العربي الثاني لذوي الإعاقة، الكويت، المجتمع المدني، الهند، الولايات المتحدة، تكافؤ الفرص.