في غزة، لا شيء يبدو ثابتا سوى الدمار والفقد، البيوت قد تتحول في لحظة إلى ركام، والأحلام تتبخر مع أول صاروخ يسقط، والأطفال الذين اعتادوا اللعب في الأزقة الضيقة قد يجدون أنفسهم فجأة في مواجهة موت لا يعرفون سببه، لكن وسط هذا المشهد القاسي، تبقى بعض الحكايات أكثر قسوة من غيرها، لأنها تجمع بين كل ألوان المأساة في آن واحد.
قصة الطفلة ماريا معاذ ريحان هي واحدة من تلك الحكايات.. طفلة صغيرة لم تتجاوز سنواتها العشر، فقدت في يوم واحد كل من تحب، وفقدت معها عينيها التي كانت ترى بهما العالم، لتجد نفسها وحيدة في خيمة نزوح، تنتظر أن يلتفت إليها العالم قبل أن تفقد ما تبقى من بصرها.. وما تبقى من حياتها.

أمر بالإخلاء يتبعه الموت
في صباح التاسع من يونيو 2025، كان الحي الذي تسكن فيه عائلة ماريا يعيش على الإيقاع المعتاد لحياة تحت الحصار، في ذلك اليوم، أصدر جيش الاحتلال الإسرائيلي أمرا عاجلا بإخلاء المربع السكني الذي يضم منزل العائلة، ولم يكن هذا المشهد جديدا على أهل غزة، فالإخلاء القسري أصبح جزءا من يومياتهم، وكثيرا ما يضطرون لمغادرة بيوتهم على عجل حاملين ما تيسر وخف من أمتعة قليلة.
لكن المفاجأة جاءت سريعا، بعد وقت قصير سمح المحتل بعودة السكان إلى منازلهم، فيما لم يتوقع أحد أن هذا القرار سيكون فخا قاتلا، فبمجرد عودة العائلات، استهدفت طائرة حربية من طراز F-16 المنزل الذي كانت عائلة ماريا قد لجأت إليه بعد نزوحها، لتنفجر السماء بنار وصوت يصم الآذان، وتحول الجدران والسقف إلى غبار وأشلاء.
تسعة شهداء وناجية وحيدة
النتيجة كانت مروعة.. تسعة شهداء من العائلة في لحظة واحدة الأب والأم والأخ والأخت والخال وزوجة الخال وأطفالهم، لم ينج أحد سوى ماريا، التي كانت محاصرة تحت الركام، جريحة، مذهولة، وفاقدة للبصر.
يروي عمها محمد لـ« جسور» تلك اللحظات قائلا: «وصل الناس إلى موقع القصف، وكان كل شيء مغطى بالركام والغبار، رائحة البارود تملأ المكان. فجأة سمعنا صوتا ضعيفا من تحت الأنقاض يقول: أنقذوني… أنا هنا. عرفنا أنها ماريا. بدأنا نحفر بأيدينا وسط الحجارة والزجاج المكسور حتى أخرجناها. كانت مغطاة بالدماء، ووجهها مليء بالكدمات، وكانت تقول لي: عمو، ماذا حصل لعيني؟ لماذا لا أرى؟، وأنا أحاول أن أهدئها وأقول: اصبري يا ماريا ».

رحلة العلاج المستحيلة داخل غزة
تم نقل ماريا على الفور إلى المستشفى الأقرب، لكن الوضع الطبي هناك كان مأساويا، والمستشفى يفتقر إلى الأجهزة الأساسية، والكوادر الطبية مرهقة بفعل الأعداد الهائلة من المصابين، وبعد الفحص الأولي، تبين أنها تعاني من نزيف حاد في إحدى العينين، فيما العين الأخرى فقدت بشكل كامل.
تم تحويلها إلى مستشفى العيون في غزة، حيث أجريت لها عملية عاجلة لإيقاف النزيف وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من عينها المتبقية، لكن الأطباء أكدوا أن الوضع يتطلب عمليات معقدة ومتقدمة لا يمكن إجراؤها داخل القطاع بسبب الحصار ونقص المعدات والأدوية.
يقول عمها محمد: «الأطباء قالوا إن هناك فرصة لاستعادة جزء من البصر في عينها المتبقية، لكن هذا يحتاج لعدة عمليات في الخارج، وكلما تأخرنا، قلت فرص النجاح ».
معركة الأوراق وجحيم الانتظار
بدأ العم محمد رحلة الإجراءات الرسمية لإحالة ماريا للعلاج خارج غزة، رحلة طويلة من الانتظار حيث لجان تقييم وفحوصات لا تنتهي، وكان عليه أن يثبت في كل مرة أن حالتها حقيقية وأنها تستحق الأولوية.. وأخيرا تم اعتماد التحويلة الطبية.
لكن القرار على الورق لم يتحول إلى واقع.. ماريا ما زالت تنتظر الموافقة على خروجها من غزة، والوقت يمضي بلا رحمة. «ماريا تسألني كل يوم: متى سنسافر؟ لماذا لا يستعجلون علاجي؟» يقول العم بحزن، «وأنا لا أملك جوابا».
حياة في خيمة.. عجز ومعاناة
في الوقت الحالي، تعيش ماريا في خيمة بإحدى مخيمات النزوح، حرارة الصيف تخنق الأنفاس، والهواء مليء بالغبار، والخيمة لا توفر أي حماية حقيقية. ماريا لا تستطيع الحركة بمفردها، تحتاج إلى من يساعدها في كل شيء: الذهاب إلى الحمام، تناول الطعام، تغيير ملابسها.. فقدان البصر جعلها تعتمد كليا على الآخرين، ومع فقدان عائلتها، أصبح الأمر أكثر قسوة.
«ماريا خرجت من تحت الأنقاض بلا شيء»، يقول عمها، «لا بيت، لا ألعاب، لا ملابس. حتى أبسط الأشياء مثل الأكل أو الشرب تحتاج لمساعدة. نحن نحاول توفير ما يمكن، لكنها بحاجة إلى مكان آمن وصحي، لا خيمة تحت الشمس الحارقة».
نداء إلى العالم
ماريا اليوم ليست مجرد طفلة جريحة، بل رمز لمعاناة آلاف الأطفال في غزة الذين يعيشون تحت الحصار والقصف، قصتها تلخص مأساة مدينة كاملة: فقدان العائلة والإصابة الجسدية وانعدام الأمان. لسان حالها يقول: «ساعدوني على السفر… أريد أن أرى النور مرة أخرى».
نداءها موجه إلى كل من يملك القدرة على الفعل: الحكومات، المنظمات الإنسانية، وحتى الأفراد. فهي لا تطلب المستحيل، بل حقا أساسيا في العلاج والحياة.
مأساة غزة في مرآة ماريا
حكاية ماريا تضعنا أمام سؤال مؤلم: كم من الأطفال في غزة يعيشون اليوم نفس المصير، لكنهم لا يملكون حتى فرصة إيصال صوتهم؟.
غزة المحاصرة، تعاني من انهيار شبه كامل في منظومتها الصحية حيث المستشفيات بلا أدوية، الأجهزة الطبية معطلة، والكوادر الطبية تعمل في ظروف لا يتحملها البشر. في ظل هذه الأوضاع، يصبح إنقاذ حياة طفل جريح معجزة تحتاج إلى جهد دولي منظم، لا مجرد بيانات تضامن.

ما بعد الألم
ماريا، رغم كل ما حدث، ما زالت تحتفظ برغبة طفولية في الحياة، تحب اللعب، وتشتاق للمدرسة، وتحلم أن تعود لترى وجه عمها وأصدقاءها، لكنها تعرف أن هذه الأحلام مرهونة بإجراء عمليات جراحية عاجلة خارج غزة.
عمها يختم حديثه قائلا: «كل ما أريده هو أن تصل قصة ماريا لكل إنسان في هذا العالم. لعل أحدهم يسمع ويقرر أن يتحرك. ماريا تستحق الحياة، وهي لم ترتكب ذنبا سوى أنها ولدت في غزة».
ماريا اليوم تنتظر، والعالم ينتظر معها.. لكن الفرق أن انتظارها سباق مع الزمن، فكل يوم تأخير يعني أن الظلام الذي يغطي عينيها قد يصبح دائما.