«كنت أشعر بأن شيئًا ما ليس على ما يرام.. لم أكن أعرف ما هو، لكني كنت أعلم أن ابنتي ورد مصابة بمرض نادر».. بهذه الكلمات بدأت فيروز نوار من محافظة دمنهور بجمهورية مصر العربية حكايتها لـ«جسور» عن ابنتها ورد، التي تحارب مرضًا نادرًا يُعرف باسم «الليبوفوسيني السيرويدي العصبي من نوع CLN6»، أو ما يُطلق عليه «مرض باتن».
قالت فيروز نوار: «ورد وُلدت طبيعية تمامًا، «سننت» ومشت وتحركت في موعدها الطبيعي، وذهبت إلى الحضانة، وكانت تتعلم وتكتب، لكن الكلام كان متأخرًا حتى أربع سنوات». وأضافت: «ذهبتُ بها إلى أطباء كثر، وكان الجميع يؤكدون أنها تعاني من مجرد تأخر لغوي بسيط وسيتحسن مع الوقت». لكن إحساس الأم لم يهدأ.
لاحظت فيروز تغيرات طفيفة في حركة ورد ونظرها، خاصة في الإضاءة الخافتة. وقالت: « لم يكن أحد يصدقني.. الجميع كان يقول: هي تمشي وتلعب بشكل طبيعي!».
حق اللجوء إلى التشخيص
في ديسمبر 2022، وبإصرار من فيروز، خضعت ورد لفحص الرنين المغناطيسي والطيفي للمخ، لتكشفت النتائج عن وجود ضمور في المخ، أوضح طبيب الأشعة أن التشخيص المقترح هو أحد أمراض «CLN»، وهي مجموعة من الأمراض الوراثية النادرة، ونصح الأم بإجراء تحليل جيني لتأكيد التشخيص.
قالت فيروز: «أرسلنا العينة إلى ألمانيا، وبعد 3 أشهر من الانتظار، جاءت النتيجة في مارس 2023: ورد مصابة بـ CLN6». وأضافت: « استقبلت الخبر بقلب معصور، ثلاثة شهور في انتظار النتيجة مروا وكأنهم ثلاث سنوات، ولولا إصراري وإحساسي بأن شيئًا ما خطأ، لضاع الوقت دون تشخيص».

امتحان صعب لا يمكن وصفه
كنت أمام امتحان قاس ولا يمكن وصفه، وكان لا بد أن أقرا عن المرض، حتى يكون لدي الوعي للتعامل معه، وأستطيع أن ألبي لابنتي احتياجاتها، على قدر المستطاع، خاصة أنها لا تستطيع الوقوف أو الجلوس أو الحركة، أو الرؤية، أو حتى البلع الذي بدأ يتدهور في الفترة الأخيرة.
وأوضحت فيروز أن المرض وراثي متنحٍّ، ينتج عن طفرة في الجين المسؤول عن التخلص من النفايات الخلوية في الخلايا العصبية. عندما لا يعمل هذا الجين، تتراكم النفايات وتؤدي إلى تدهور تدريجي في الوظائف العصبية، في حين تبدأ الأعراض بين 3-6 سنوات بفقدان التوازن والتأخر الحركي، يليها فقدان البصر، ثم تدهور القدرة على المشي والكلام والبلع، ولا يوجد علاج حاليًا للمرض، والأدوية المتاحة فقط لتخفيف الأعراض.

رحلة البحث عن علاج غير موجود
بعد التشخيص، انطلقت فيروز في بحثٍ مضنٍ عن أي أمل، زارت عيادات الوراثة في مستشفيات جامعة عين شمس والدمرداش ، لتستقبلها الدكتورة مها سعد زكي في مركز البحوث، لكنها لم تستطع تقديم جديد.. المرض نادر ولا علاج له، كما أشارت إلى أن عدد الحالات المسجلة في مصر لمرض باتن لا يتجاوز 12 حالة، مما يزيد من شعور العائلات بالعزلة وندرة المعلومات.
وأضافت: «سجّلت حالة ورد في ملفات المركز، على أمل أن يتم الاتصال بنا إذا ظهر أي علاج في المستقبل». وحالياً، تتابع ورد مع د. طارق عمر، استشاري مخ وأعصاب الأطفال في الإسكندرية، الذي يُشرف على متابعتها الدورية.

رسالة إلى الأهالي..«صدقوا إحساسكم»
قالت فيروز لـ«جسور» «أكبر درس تعلمته هو أن أثق بإحساسي كأم.. نحن نقضي وقتًا طويلًا مع أطفالنا، ونلاحظ التغيرات التي قد لا يراها الآخرون». ودعت الأهالي إلى عدم الاستسلام للردود المطمئنة إذا كانوا يشعرون بوجود مشكلة، والإصرار على الفحوصات المتخصصة.
وختمت فيروز حديثها برسالة عاجلة: «أطفال باتن يعيشون بيننا بصمت، ويحتاجون إلى من يتحدث عنهم». ودعت المؤسسات الطبية والعلماء إلى زيادة الاستثمار في أبحاث العلاج الجيني والتجارب السريرية، وطالبت بتبسيط إجراءات فحوصات الجينات وتوفير أدوية «الميجلوستات» (Miglustat) التي قد تُبطئ تقدم المرض، رغم استخدامها خارج النطاق المعتمد للمرض، واعتماد صرفها للمرضى.

تبلغ ورد 8 سنوات، ولم تعد قادرة على المشي أو الجلوس دون مساعدة، وفقدت بصرها بسبب ضمور العصب البصري. لكن أمها تواصل البحث عن أي أمل، وتجمع المعلومات لتكون عونًا لأسر أخرى تواجه نفس التحدي، وأنشأت «جروب» على الفيسبوك لتقديم المشورى إلى الأسر في أي مكان.
«وردة حياتي تذبل يومًا بعد يوم، لكنني لن أتوقف عن السعي من أجلها».. بهذه الكلمات تختم فيروز نوار قصتها لـ«جسور» وكلماتها تقطر بألم لا يوصف، وإصرارًا لا يعرف الاستسلام.

ما هو مرض باتن – النوع CLN6؟
في عالم الأمراض النادرة، يبرز مرض يعرف باسم «الليبوفوسيني السيرويدي العصبي» (NCL) أو «مرض باتن»، وهو مجموعة من الاضطرابات الوراثية التي تهاجم الجهاز العصبي للأطفال وتؤدي إلى تدهور متواصل في قدراتهم الحركية والإدراكية والحسية. بين هذه الأنواع، يوجد النوع CLN6، الذي يظهر في مرحلة الطفولة المتأخرة ويعد من أشد الأنواع قسوة.
ينتمي هذا المرض إلى مجموعة أمراض تسمى “الليبوفوسينات السيرويدية العصبية”، والتي تسبب تراكم مواد دهنية بروتينية سامة في خلايا الدماغ والأنسجة الأخرى. في النوع CLN6، تبدأ الأعراض بالظهور بين عمر 2 إلى 4 سنوات، حيث يفقد الطفل تدريجياً قدرته على الرؤية والحركة والكلام، ثم يتطور إلى نوبات صرع وتدهور عقلي وشلل. السبب وراء هذا المرض هو طفرة جينية في الجين المسمى CLN6، الذي يورث من الوالدين لحاملين للمرض دون أن تظهر عليهما الأعراض .

التطور والأعراض
يبدأ الطفل حياته بشكل طبيعي، لكن مع الوقت تظهر علامات المرض بشكل تدريجي. من الأعراض الأولى ضعف البصر، الذي يتطور إلى عمى كامل، إضافة إلى نوبات الصرع وفقدان المهارات الحركية مثل المشي والجلوس. لاحقاً، يفقد الطفل القدرة على الكلام والبلع، ويصبح بحاجة إلى رعاية كاملة. متوسط العمر المتوقع للأطفال المصابين بهذا النوع لا يتجاوز 10 إلى 12 سنة في معظم الحالات .
الانتشار والتشخيص
هذا المرض نادر جداً، حيث يصيب حوالي 1 من كل 100,000 طفل في العالم، لكنه أكثر انتشاراً في بعض المناطق مثل شمال أوروبا والولايات المتحدة. للتشخيص، يعتمد الأطباء على الفحوصات الجينية لتحديد الطفرة في الجين CLN6، بالإضافة إلى تخطيط الدماغ والتصوير بالرنين المغناطيسي للكشف عن ضمور الدماغ. في بعض الأحيان، يتم فحص عينات من الجلد أو الأنسجة تحت المجهر الإلكتروني للكشف عن الترسبات الدهنية المميزة للمرض .
العلاج والتعامل مع المرض
حتى الآن، لا يوجد علاج شاف لمرض باتن النوع CLN6. كل الخيارات المتاحة هي داعمة وتلطيفية، مثل الأدوية للتحكم في النوبات الصرعية، والعلاج الطبيعي للحفاظ على مرونة المفاصل، والتغذية عبر الأنبوب في المراحل المتقدمة. هناك أبحاث واعدة حول العلاج الجيني والعلاج الإنزيمي، لكنها لا تزال في مراحل تجريبية ولم تصبح متاحة على نطاق واسع .
إن الأطفال المصابون بمرض باتن وأسرهم يواجهون رحلة شاقة مليئة بالتحديات الجسدية والعاطفية. الدعم النفسي والاجتماعي لهذه الأسر هو جزء أساسي من المواجهة، بالإضافة إلى أهمية التشخيص المبكر للاستعداد للتحديات القادمة. الأمل في الأبحاث العلمية المستقبلية يبقى النور الوحيد في نهاية النفق لهذه الأسر التي تواجه أحد أصعب الأمراض النادرة .