مريم النجدي.. حين أظلم بصرها أنارت الطريق للآخرين ببصيرتها

مريم النجدي.. حين أظلم بصرها أنارت الطريق للآخرين ببصيرتها

المحرر: محمود الغول - مصر

مريم كمال النجدي، ليس مجرد اسم فتاة مصرية كفيفة، بل هو عنوان لقصة كفاح وإرادة، شابة قررت أن تتجاوز حدود بصرها لتفتح عيون وقلوب المجتمع بأسره، لم تستسلم للعقبات، بل حولتها إلى دافع لتصبح شعلة أمل، من خلال مبادرة فريدة من نوعها، هدفها بسيط وعميق في آن واحد هو باختصار «توعية المجتمع ونشر ثقافة التعايش مع بعض».

إنها حكاية لا تدور حول إعاقة بل حول إرادة تحول التحديات إلى فرص، وتثبت أن البصيرة الحقيقية تنبع من القلب وليس من العين.

طفولة في كنف المحبة والإيمان

تبدأ حكاية مريم في طفولتها في قرية هادئة، حيث كانت أول طفلة كفيفة تولد فيها، لم يكن في القرية ثقافة كافية للتعامل مع شخص كفيف، ولم يكن لوالديها أي خبرة سابقة في هذا الشأن. ولكن، وبدلا من أن يستسلما للجهل أو الشفقة، قررا أن يتعاملا مع ابنتهما بشكل طبيعي تماما، وهو قرار غير حياتها.

مريم النجدي تعزف على الكامنجا

تروي مريم لـ«جسور» عن تلك الأيام بابتسامة حانية، وكأنها تستعيد لحظات نقية من الذاكرة: «كنت طفلة سعيدة ومميزة، ألعب جميع الألعاب مثل بقية الأطفال، مما جعلني أشعر بأنني طفلة طبيعية». لم تمنع يوما من اللعب في الشارع، أو من المشاركة في الأنشطة التي يمارسها أقرانها. كانت أذناها تلتقطان أصوات الأطفال وهم يركضون، وكانت يداها تستكشفان ملمس الألعاب المختلفة، وقلبها ينبض بالبهجة، كان والداها هما السند الأول، يحكيان لها عن العالم بكل تفاصيله، ويصفان لها الألوان التي لا تراها، ويشجعانها على استكشاف العالم من حولها دون خوف. هذا الحب غير المشروط، وهذا التعامل الطبيعي، هو الذي شكل شخصيتها المستقلة والواثقة، وزرع في داخلها بذرة الإيمان بقدراتها.

رحلة إلى النور والأمل

لم تلبث هذه الطفولة الهادئة أن واجهت أول اختبار حقيقي إذ كان عليها أن تترك عالمها الآمن لتذهب إلى القاهرة، تحديدا إلى قسم داخلي في حضانة «النور والأمل» بمدينة نصر. كان الهدف هو تعلم القراءة بطريقة برايل، ولكن التجربة كانت أعمق من ذلك بكثير، لم يكن الأمر سهلا عليها، فقد كانت متعلقة بأسرتها بشدة، والبعد عنها كان بمثابة اقتلاع لجذورها.

تتذكر مريم تلك الليلة الأولى في الحضانة، حيث كانت تستمع إلى أصوات الفتيات الأخريات في الغرفة، وتشعر بالوحشة لأول مرة في حياتها، لكنها لم تستسلم فكل دمعة سقطت كانت تغسل خوفا، وكل ليلة مرت كانت تعلمها درسا جديدا في الاعتماد على نفسها.

كانت هذه التجربة القاسية هي التي صقلت شخصيتها، وعلمتها أن قوتها الحقيقية لا تكمن في وجود أسرتها بجانبها دائما، بل في قدرتها على الوقوف بمفردها وتجاوز الصعاب.

تقول مريم لـ «جسور» عن تلك الفترة: «كان الأمر صعبا جدا علي، لأنني كنت متعلقة بأسرتي بشدة، ولكنه علمني الاعتماد على النفس». ومن تلك التجربة، خرجت مريم أقوى، وأكثر تصميما على مواجهة العالم.

نقطة تحول.. عبد الله والقرار الجريء

حياة مريم مليئة باللحظات التي شكلت مسارها، لكن لحظة ميلاد شقيقها عبد الله كانت محورية بشكل خاص. حينما ولد كفيفا هو أيضا، شعرت مريم بمسؤولية جديدة تجاهه وتجاه والدتها. وبدلا من أن تستسلم لمشاعر الحزن، قررت أن تتخذ قرارا شجاعا ليثبت لها وللعالم أنها قادرة على تحمل المسؤولية.

تقول مريم بلهجة حاسمة: «قررت أن أسافر وحدي من مصر الجديدة إلى القليوبية، لأريح أمي من عناء توصيلي، وبدأت أواجه الشارع وأتعامل مع المجتمع». لم تكن هذه الرحلة مجرد مسافة تقطعها، بل كانت رحلة داخلية نحو التحرر من الخوف والتردد، كانت تسير في شوارع القاهرة المزدحمة، وتستمع إلى أصوات السيارات والمارة، وتحاول أن تشق طريقها بإصرار وثبات، في كل خطوة كانت تدرك أنها تتعلم درسا جديدا في الحياة، درسا لا يمكن أن يتعلمه أحد من الكتب.هذه التجربة عززت ثقتها بنفسها، وأعدتها للمرحلة المقبلة من حياتها، وهي الجامعة.

 شرارة المبادرة

في فترة الجامعة، اكتشفت مريم أن المجتمع لا يزال يفتقر إلى الوعي اللازم للتعامل مع الأشخاص ذوي الإعاقة، واجهت نوعين من الناس: «نوع يتعاطف معي بشكل مبالغ فيه، ونوع آخر ينبهر بقدراتي بشكل مبالغ فيه أيضا». لم تكن مريم تريد شفقة أو إعجابا مبالغا فيه، بل كانت تريد أن تعامل كإنسانة عادية لها قدراتها ونقاط ضعفها مثل أي شخص آخر، ولكن الموقف الذي أشعل شرارة المبادرة في داخلها، كان مع سائق تاكسي. تقول: «في موقف مع سائق تاكسي سألني كيف سأدفع له المال، مما جعلني أقرر أن أفعل شيئا لتغيير هذه النظرة المجتمعية». كان هذا السؤال البسيط يحمل في طياته جهلا عميقا بطبيعة حياة الأشخاص المكفوفين، وكأنه يرى في مريم عجزا كاملا. في تلك اللحظة، قررت أن يكون لها دور إيجابي في تصحيح هذه المفاهيم الخاطئة.

 من فكرة إلى واقع

من رحم هذا الموقف، ولدت فكرة المبادرة التي أطلقتها: «توعية المجتمع وثقافة التعايش مع بعض». بدأت مريم بتصوير فيديوهات قصيرة ونشرها على الإنترنت، تحكي فيها عن مواقفها اليومية وتصحيح المفاهيم الخاطئة. كان هدفها بسيطا لكنه عميق: تدريب موظفي الشركات والمطاعم والمقاهي على التعامل الإنساني والراقي مع الأشخاص ذوي الإعاقة، من دون إحراج أو جهل أو شفقة، كانت رسالتها واضحة: إن أي شخص، سواء كان لديه إعاقة أم لا، يجب أن يشعر بالراحة والاحترام في كل مكان يذهب إليه.

مريم النجدي تشارك في حفل جمعية بهية

تحكي مريم عن تدريباتها في أحد المقاهي الشهيرة: «أطلب من الموظف أن يصف لي القائمة، ليس شفقة، بل لأنه جزء من الخدمة الجيدة، أقول له: لا تخف من استخدام كلمة ‹انظر›، لأنها جزء طبيعي من لغتنا، المهم هو نبرة الصوت والنية. لا تنظر إلي بشفقة، بل كن إنسانا ودودا ومرحبا» كانت هذه التدريبات العملية تغير نظرة الموظفين من الخوف والارتباك إلى الثقة والتعامل الطبيعي. لاقت فيديوهاتها صدى كبيرا بين الناس، وشجعها فيها الإعلامي أحمد يونس.

صدمات شخصية وقوة إيمانية

في خضم نجاحها، واجهت مريم تحديات شخصية صعبة كادت أن تكسرها، كان أولها وفاة والدها، الذي كان سندها الأول ومعلمها. «كان والدي شخصا طيبا وعلمني كل شيء جميل في حياتي»، تقول مريم بصوت يملؤه الحنين. بعد وفاته، شعرت بالوحدة والضياع، ولكنها قررت أن تكون قوية من أجله، ثم جاءت الصدمة الأكبر، حين توفيت شقيقتها الكبرى.

مريم النجدي مع الفنان حسين فهمي

شعرت مريم بالاكتئاب والوحدة، وتمنت لو أن أحدا يمسح على رأسها كما كانت تفعل شقيقتها. ولكنها في النهاية، وجدت القوة في الاعتماد على الله، وعرفت أن القوة الحقيقية تنبع من الإيمان والصبر.

تكريم ومسؤولية والقصة لم تنته بعد

لم يذهب هذا الكفاح سدى فبعد أن بدأت مبادرتها تأخذ شهرة واسعة، تم ترشيحها للمشاركة في مؤتمر الشباب، وتم تكريمها من قبل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وتعتبر مريم هذا التكريم لوالديها الذين علموها الإيمان بنفسها، وتشير إلى أن المبادرة بدأت تكبر معها، وأنها تحاول أن تكون شخصا يمثل المكفوفين بشكل إيجابي، بعيدا عن الصور النمطية السلبية أو المبالغ فيها. وتضيف: «أرى أن المسمى مهم لكي يعرف المجتمع احتياجات هذه الفئة ويوفرها لهم»، في إشارة منها إلى أهمية الوعي المجتمعي بكل أبعاده.

بصيرة القلب

تختتم مريم قصتها كما ترويها لـ «جسور» بوصف يومها العادي، وكيف تقضي وقتها في العمل، ومع أصدقائها، وكيف تجد السعادة في مساعدة الآخرين والتأثير الإيجابي في حياتهم. هي لا تطلب شيئا لنفسها، بل تطلب أن نكون جميعا مجتمعا أكثر رحمة واحتواء، رسالتها اليوم موجهة إلى كل صاحب شركة أو مطعم أو مقهى أو مؤسسة، بأن يمدوا يد العون لمبادرتها، هي تدعونا جميعا أن نكون جزءا من التغيير، وأن ندعم فكرتها لجعل مجتمعنا أكثر إنسانية وشمولية.

وفي نهاية المطاف، تقول مريم جملة تلخص كل ما تؤمن به: «ومتنسوش إني أقوى مما العالم يتخيل ويوما ما هنور العالم». إنها ليست مجرد كلمات، بل هي وعد من فتاة لم تر النور بعينيها، لكنها قررت أن تكون هي النور الذي يضيء الطريق لكل من حولها.

المقالة السابقة
انطلاق مسابقة ملكة جمال الكراسي المتحركة فى أمريكا
المقالة التالية
ملك صالحية تستعيد طفولتها بعد 3 شهور من العلاج بإيطاليا

وسوم

أصحاب الهمم (43) أمثال الحويلة (387) إعلان عمان برلين (391) اتفاقية الإعاقة (525) الإعاقة (71) الاستدامة (720) التحالف الدولي للإعاقة (727) التشريعات الوطنية (531) التعاون العربي (401) التعليم (36) التعليم الدامج (36) التمكين الاقتصادي (50) التنمية الاجتماعية (718) التنمية المستدامة. (48) التوظيف (33) التوظيف الدامج (679) الدمج الاجتماعي (588) الدمج المجتمعي (107) الذكاء الاصطناعي (56) العدالة الاجتماعية (52) العقد العربي الثاني لذوي الإعاقة (394) الكويت (54) المجتمع المدني (716) الولايات المتحدة (47) تكافؤ الفرص (710) تمكين (39) حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (496) حقوق الإنسان (58) حقوق ذوي الإعاقة (68) دليل الكويت للإعاقة 2025 (367) ذوو الإعاقة (87) ذوو الاحتياجات الخاصة. (689) ذوي الإعاقة (255) ذوي الهمم (40) ريادة الأعمال (380) سياسات الدمج (702) شركاء لتوظيفهم (375) قمة الدوحة 2025 (367) كود البناء (366) لغة الإشارة (40) مؤتمر الأمم المتحدة (329) مجتمع شامل (710) مدرب لغة الإشارة (562) مصر (30) منظمة الصحة العالمية (581)