لا يمكن النظر إلى حرب السادس من أكتوبر 1973 كمعركة عسكرية تقليدية لاستعادة الأرض، بل كانت امتحانا إنسانيا قاسيا ترك أثره على آلاف الجنود الذين عادوا من الجبهة بذكريات لا تمحى، وجراح ترافقهم حتى اليوم، هؤلاء المصابون الذين فقدوا أطرافا أو بصرا أو عانوا من إعاقات جسدية ونفسية، يمثلون الوجه الآخر للنصر.. الوجه الذي يذكرنا بأن الحرية والاستقلال لم يأتيا بلا ثمن.
منذ اللحظة الأولى للعبور العظيم سطرت تضحيات لا تنسى، بعض المقاتلين عادوا بأجساد أنهكتها الشظايا، وآخرون فقدوا أعينهم تحت وميض القذائف، وغيرهم ما زالوا يحملون في صدورهم متاعب صحية ونفسية خلفتها الحرب، وقد وثقت قصص عديدة في الأرشيفات الصحفية والكتب التوثيقية، مثل بطولات المقاتل محروس رزق الله عطا الله، من سلاح المظلات الذي واجه الدبابات بجرأة، أو قصة شنودة راغب الذي حمل قائده المصاب تحت نيران العدو، هذه الشهادات ليست فقط مادة للتاريخ، بل تعكس كيف أن التضحية الفردية صنعت نصرا جماعيا.
ورغم الاحتفاء السنوي بهم، عانى مصابو الحرب طويلا من تحديات واقعية، فالمعاشات والرواتب التقاعدية لم تكن كافية لمجاراة متطلبات المعيشة، لا سيما مع مرور العقود وتغير الظروف الاقتصادية، بعضهم واجه عزلة اجتماعية بسبب الإعاقة الجسدية أو النفسية، وآخرون كافحوا للاندماج في سوق العمل، وتؤكد دراسات الطب النفسي العسكري أن كثيرا من هؤلاء الأبطال عانوا من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، وهي جروح غير مرئية لا تقل قسوة عن بتر الأطراف.

جانب من قصص الأبطال
في عام 2013 نشرت تقارير صحفية عن العميد حسن عبدالحميد الذي كان يجلس على سريره في مستشفى المعادي العسكري، يروي بحيوية قصة مشاركته في حرب أكتوبر، وإصابته التي أبقته أغلب حياته في المستشفى، حيث تحدى المرض بالإصرار وحب الحياة.
في حرب أكتوبر 1973، كان حسن الرجل الثاني في نقطة الصواريخ المضادة للطائرات بسرابيوم، حيث أسهم في تدمير خمس مروحيات إسرائيلية كانت تحاول الإبرار، لكنه أصيب إصابة بالغة أثناء هجوم جوي أدت إلى شلل نصفي، أبعده عن المشي مدى الحياة، فأمضى سنوات العلاج بين مستشفيات مصر وفرنسا وإنجلترا.
وعلى الرغم من الإعاقة، تحدى حسن وضعه، فعمل في المقاولون العرب، مزاولا هواية الصيد وقيادة سيارة مجهزة، وأسهم في تأسيس جمعية «الوفاء والأمل» لمصابي الحروب، ناشرا تجربته وخبرته لأقرانه المصابين، كذلك كان يدير ندوات داخل المستشفى لنقل خبراته في مواجهة الألم والتعايش مع الإعاقة.
أما العميد السيد وجدي، فقد قضى 40 عاما في مستشفى المعادي العسكري بعد إصابته بشظايا متعددة في رئتيه أثناء معارك سيناء في أكتوبر 1973. فقد تعرض لانفجار مدفعية أدى إلى شلل نصفي كامل ونزوح الشظايا في جسده، ما أبقاه مقيما طويلا في المستشفى، رغم تلقيه علاجا في عدة دول.
ظل وجدي راضيا بقضاء الله، متشبثا بفخره بالبطولات، وتولت القوات المسلحة رعايته إلى أن تقاعد وهو داخل المستشفى، حيث كان وقتها يواصل حياته بصبر وصمت، ممثلا نموذجا آخر لصمود المصابين الذين قدموا أرواحهم فداء للوطن.

جهود الدولة المصرية في تكريم مصابي الحرب
ومع ذلك لم تقف الدولة مكتوفة الأيدي، فمنذ عام 1974 صدر أول تشريع لرعاية مصابي العمليات الحربية، وتوالت القوانين التي تمنحهم امتيازات وظيفية ورعاية صحية، ثم جاءت مبادرة إنشاء صندوق مصابي العمليات الحربية والإرهاب كخطوة مؤسسية حديثة تهدف إلى تقديم دعم أكثر شمولا، سواء ماديا أو صحيا أو اجتماعيا، الصندوق بات يقدم برامج علاجية متقدمة، ويساعد بعض المصابين في توفير الأطراف الصناعية أو الأجهزة التعويضية، كما يخصص منحا تعليمية لأبنائهم.
البعد الاجتماعي يظل هو الأهم: كيف ينظر المجتمع إلى هؤلاء الأبطال؟ ورغم الاحترام العام والتكريم الرمزي في المناسبات الوطنية، فإن مصابي الحرب كثيرا ما عبروا في لقاءات صحفية عن حاجتهم إلى حضور أعمق في الذاكرة اليومية، لا مجرد الاحتفال السنوي، فهم جزء من النسيج الوطني، وقصصهم يجب أن تكون ملهمة للأجيال الجديدة التي لم تشهد الحرب.

مصابو الحرب في الثقافة الشعبية
الثقافة الشعبية لعبت دورا في إبقاء ذكراهم حية، فقدمت السينما المصرية أفلاما مثل الوفاء العظيم وأبناء الصمت التي جسدت مشاهد المصابين، وكيف تظل التضحيات حية في قلوب الأبطال، كما أسهمت الأغاني الوطنية من على الربابة بغني إلى حلوة بلادي السمرا في تخليد صورة المقاتل الجريح الذي لم يتراجع.
وفي لقاء تلفزيوني سابق، قالت العميد ليلى عبدالمولى، الأستاذة في الأكاديمية الطبية العسكرية، وإحدى المشاركات في حرب أكتوبر، «شفت الروح القتالية الموجودة فى الجنود، شوفت جنود مصابين إصابات شديدة وحياتهم هتنتهى خلال ساعات، وعاوزين يرجعوا الجبهة مرة أخرى»، مضيفة: «الأهالى اللى كانوا قريبين من المستشفيات كانوا بيساعدونا ويقدموا لنا الدعم، سواء من طعام أو شراب أو مساعدة فى الأعمال».
اليوم ونحن نحتفل بذكرى النصر بعد أكثر من خمسين عاما، يبرز أن التكريم الحقيقي يكون حين نضعهم في صميم الذاكرة الوطنية، ونستثمر بطولاتهم في بناء وعي الأجيال الجديدة بقيمة التضحية والانتماء؟.
مصابو أكتوبر ليسوا مجرد صفحات في كتاب التاريخ، بل هم شهود أحياء على كيف تدفع راضيا قطعة من جسدك ثمنا لكي يقف وطنك، ومع كل خطوة إصلاحية في رعايتهم، تتجدد الرسالة بأن النصر الذي تحقق لم يكن بالسلاح وحده، بل بجراح تحولت إلى أوسمة على صدر أمة بأكملها.