في لحظة تختلط فيها الدموع بالدهشة، وبين نبض الأجهزة ودعوات فريق طبي لا تهدأ، فتَح رضيع لم يتجاوز عمره 24 ساعة عينيه للمرة الأولى بعد جراحة دقيقة في محجر العين، ليعلن ميلادًا ثانيًا، ميلادًا للبصر هذه المرة.
وفي تصريحات لـ«جسور،» يروي الدكتور أشرف عبد السلام، أستاذ جراحات محجر العين وتجميل الجفون والقنوات الدمعية بكلية الطب جامعة عين شمس والذى قام بهذه العملية المعجزة، تفاصيل هذه العملية التي وصفها بأنها واحدة من أدق الجراحات في هذا التخصص على مستوى العالم.
يقول الدكتور أشرف:«كانت الحالة لطفل حديث الولادة لم يتجاوز عمره ساعات، وُلد بورم شديد الندرة خلف العين. خطورة الورم لم تكن في وجوده فقط، بل في موقعه الدقيق بجوار العصب البصري ومركز الرؤية، ما جعلنا أمام تحدٍّ حقيقي: إنقاذ العين أولًا، ثم حماية البصر قدر المستطاع.»
منذ اللحظة الأولى للتشخيص، أدرك الفريق الطبي أن كل دقيقة قد تصنع الفارق بين طفل يُبصر وطفل يفقد عينه للأبد. لذلك تم تجهيز غرفة العمليات فورًا، وبدأ التدخل الجراحي العاجل خلال الساعات الأولى من ميلاد الطفل.
ويشرح الطبيب تفاصيل ما حدث لجسور قائلًا: «العملية تمت تحت الميكروسكوب الجراحي باستخدام أدوات دقيقة جدًا لتتبُّع الورم واستئصاله بالكامل دون المساس بالألياف العصبية الدقيقة. النجاح الحقيقي لم يكن فقط في إزالة الورم، بل في الحفاظ على العصب البصري سليمًا بنسبة كبيرة، وهو ما يتطلّب دقة شديدة ومهارة لا تسمح بهامش خطأ»

كانت اللحظة الفارقة أثناء العملية، كما يرويها الدكتور أشرف، عندما بدأت عين الطفل تتحرك بعد إزالة الورم، ثم فتَح عينه للمرة الأولى.
«تلك كانت أسعد لحظة في حياتي المهنية. لم تكن مجرد عملية ناجحة، بل مشهد إنساني نقي شعرت فيه بأن الله منحنا نعمة إنقاذ البصر في وقته المحدد»
هذه الجراحة النادرة لا تتكرر كثيرًا حتى في كبرى المراكز الطبية العالمية. لكن الطبيب المصري يرى أن الإنجاز الحقيقي لا يكمن في ندرة الحالة فحسب، بل في إثبات أن مصر تمتلك كفاءات طبية قادرة على إجراء مثل هذه الجراحات الدقيقة بأيدٍ مصرية خالصة وتجهيزات محلية.
«هذا بالنسبة لي ليس إنجازًا شخصيًا بقدر ما هو رسالة واضحة: أن لدينا في مصر القدرة على إجراء جراحات عالية التعقيد بمعايير عالمية دون الحاجة لإرسال الأطفال للخارج أو فقدان الأمل.»
اكتشاف مبكر يعني إنقاذ البصر
وبمناسبة اليوم العالمي للإبصار الذي يُحتفل به في أكتوبر، يوجّه الدكتور أشرف عبد السلام رسالة توعوية إلى الأسر والأطباء على حد سواء، مؤكدًا أن الاكتشاف المبكر لأمراض العيون لدى الأطفال حديثي الولادة هو المفتاح الحقيقي لحماية البصر.
«أؤكد دائمًا على ضرورة فحص العين بعد الولادة مباشرة، ثم في عمر 3 أشهر و6 أشهر، يليه فحص دوري سنوي حتى في غياب الأعراض، لأن بعض المشكلات لا تظهر للأهل في بداياتها بينما يكون تأثيرها خطيرًا في المستقبل.»
ويشير إلى مؤشرات مبكرة تستدعي الانتباه السريع، منها:
- عدم تتبّع الطفل للأشياء بعد الأسبوع السادس.
- ظهور بياض في البؤبؤ.
- الحول المستمر بعد الشهر الثالث.
- دموع غزيرة بلا سبب أو حساسية مفرطة للضوء.
- اهتزاز العين أو ضعف استجابتها للمؤثرات.
«هذه العلامات يجب أن تُؤخذ بجدّية، لأنها قد ترتبط بحالات يمكن علاجها بسهولة في بدايتها، لكنها قد تتحول إلى أزمة حقيقية إذا أُهملت.»
ويضيف أن أكثر الحالات التي يتم اكتشافها في فحص حديثي الولادة تشمل انسداد القناة الدمعية، والمياه البيضاء الخِلقية، واعتلال الشبكية لدى الأطفال المبتسرين أو الأطفال الخُدّج، مشيرًا إلى أن نسب نجاح العلاج في هذه الحالات ترتفع كلما تم التشخيص مبكرًا.
دعوة لبروتوكول وطني للفحص المبكر
ويرى الدكتور عبد السلام أن الوقت قد حان لتطبيق بروتوكول إلزامي لفحص العيون داخل كل مستشفى ومركز ولادة في مصر، يشمل فحص قاع العين والمبتسرين بشكل خاص، مع تدريب الطواقم الطبية على العلامات التحذيرية.
«هذا الإجراء وحده كفيل بإنقاذ آلاف الأطفال سنويًا من أمراض كان يمكن السيطرة عليها في أيامها الأولى»
ويؤكد أن التدخّل المبكر ليس مجرد خطوة إضافية، بل هو الفارق الحقيقي بين طفل يُبصر وطفل يفقد عينه أو يحتاج لاحقًا إلى عمليات معقدة.
«كثير من الحالات التي تُكتشف في أيامها الأولى تحتاج فقط إلى علاج بسيط، بينما التأخر في التشخيص يضع الطفل في مسار علاجي طويل ومعقد»
العين التي فتحت النور من جديد
أما عن حالة الطفل الذي أُجريت له الجراحة، فيقول الدكتور أشرف عبد السلام إن حالته الآن مستقرة ويستجيب بصريًا بشكل مطمئن، مع استمرار المتابعة الدورية لضمان اكتمال نمو العين بصورة سليمة.
«كانت لحظة فتحه لعينيه بعد الجراحة واحدة من أكثر اللحظات إنسانية وتأثيرًا بالنسبة لي وللفريق بالكامل، وهي تذكير واضح بأن الدقيقة الواحدة قد تُغيّر مستقبل طفل وحياة أسرة بأكملها.»

الإعلام شريك في إنقاذ البصر
وفي ختام حديثه، يوجّه الدكتور أشرف رسالة إلى وسائل الإعلام، معتبرًا أن دورها محوري في نشر الوعي المجتمعي:
«المعرفة هنا ليست ترفًا، بل وقاية وعلاج مبكر. كلمة واحدة قد تُنقذ طفلاً لا يستطيع أن يصف ما يشعر به ولا يملك وسيلة للدفاع عن بصره.»
ثم يختتم رسالته للأهل بعبارة تختصر جوهر رسالته الطبية والإنسانية:
«افحصوا عيون أطفالكم مبكرًا. فالعين تُنقَذ في أيام، وتُفقد إلى الأبد إذا تأخرنا»