نشرت صحيفة Ukrainska Pravda حوارًا مطولًا أجرته الصحفية ألينا بولياكوفا مع عازف البيانو والملحن الإندونيسي أناندا سوكارلان، الذي تحول رغم إصابته بمتلازمة أسبرجر ومتلازمة توريت، هما اضطرابات عصبية تؤثر على السلوك والحركة والتواصل الاجتماعي، إلى واحد من أبرز الأصوات الموسيقية في مجاله، جامعًا بين الموهبة والإصرار والرؤية الإنسانية.
في هذا الحوار يكشف سوكارلان عن مسيرته الشخصية والفنية وعن فلسفته في التعامل مع الموسيقى باعتبارها وسيلة لتجاوز حدود الجسد وإعادة تعريف معنى الإعاقة.
يتحدث سوكارلان عن بداياته وعن كيف شكلت ظروفه الصحية تحديًا كبيرًا لكنه وجد في الموسيقى طريقًا للتحرر من القيود التي يفرضها المجتمع على المختلفين، بالنسبة له، ليست الإعاقة في الجسد بل في النظرة الاجتماعية التي تختزل الإنسان وتضع حوله الأسوار.
لذلك كرس جزءًا كبيرًا من عمله للتأليف لذوي الإعاقة بدءًا من مشروعه عام 2008 حين ألّف أعمالًا لعازفين بيد واحدة بدعوة من مؤسسة إسبانية وصولًا إلى أحدث مشاريعه بالتعاون مع مركز Superhumans في أوكرانيا لتأليف مقطوعات لمستخدمي الأطراف الصناعية. ويعبر عن قناعته بأن التكنولوجيا قد تفتح إمكانيات غير مسبوقة، بحيث يتمكن العازف الذي يستخدم طرفًا صناعيًا من أداء أكثر من آلة في الوقت نفسه فينعكس ذلك على المشهد الموسيقي العالمي.
من أبرز إنجازات أناندا سوكارلان في هذا المجال تأليفه لمقطوعةRapsodia Nusantara No 15 المخصصة للعزف باليد اليسرى، والتي تُعد جزءًا من مشروع ضخم يهدف إلى تأليف 34 مقطوعة موسيقية كل واحدة مستوحاة من الأغاني الشعبية والثقافة الموسيقية لمقاطعة مختلفة من مقاطعات إندونيسيا.
لكنه يؤكد أن هذه المشاريع لا تعني تبسيط الموسيقى أو جعلها أقل شأنًا، بل إعادة صياغتها بحيث تظل تحمل قيمتها الفنية الكاملة. بالنسبة له، المهم أن يتمكن العازف بيد واحدة من اعتلاء المسرح وتقديم حفلة كاملة تجعل الجمهور حين يغلق عينيه يظن أنه يستمع إلى أداء بيدين.
يلهمه في ذلك تجربة بول فيتجنشتاين، العازف النمساوي الذي فقد إحدى ذراعيه وطلب من ملحنين كبار كتابة أعمال لليد اليسرى. لكنه يسعى إلى تجاوز تلك التجربة بجعل العازف قادرًا على الاستقلالية التامة دون الحاجة لعازفين مساعدين.
يرى أن الموسيقى ليست مجرد فن بل أداة لإعادة الكرامة والثقة، خصوصًا في بلد مثل أوكرانيا حيث فقد كثيرون أطرافهم بسبب الحرب. ومن هنا تصبح الموسيقى أكثر من مجرد ألحان، إذ تتحول إلى شهادة إنسانية وإلى ما يشبه اللؤلؤة التي تتشكل داخل محارة من أثر جرح عميق.
وفي حديثه يكشف أيضًا عن موقفه من التكنولوجيا الحديثة فيرفض اللجوء إلى الذكاء الاصطناعي مفضلًا الاعتماد على “الذكاء الطبيعي” والخيال البشري، ويصر على استخدام الآلات الموسيقية العادية دون تعديل أو أدوات مساعدة، ليكون التحدي أصيلًا والنتيجة أكثر صدقًا. وهو يعترف أن ما يقدمه قد لا يحقق الانتشار التجاري السريع، لكنه يراه طريقًا أصيلًا يضمن للموسيقى مكانتها وقيمتها.
في نهاية الحوار يترك سوكارلان انطباعًا صافيًا وبسيطًا حين يقول إنه “سعيد” عبارة قصيرة لكنها تعكس اكتمال تجربته ورضاه عن المسار الذي اختاره وإصراره على الاستمرار في توسيع حدود الممكن عبر الفن، ليبقى مثالًا على أن الموسيقى يمكن أن تكون جسرًا بين الألم والأمل وأنها قادرة على تحويل الهشاشة الإنسانية إلى قوة وإبداع خالد.