يحتفل العالم في الـ 23 من سبتمبر باليوم العالمي للغات الإشارة، والذي يعد مناسبة جيدة لتسليط الضوء على لغات الإشارة، بوصفها وسيلة حيوية لملايين الصم، وفرصة لتعزيز حقوقهم ودمجهم في المجتمع.
السينما والدراما المصرية والعربية على مدار تاريخها لم تغفل تقديم شخصيات فئة الصم، معتمدة في بعض الأحيان على مواهب حقيقية لضمان واقعية الطرح.
وتمثل الممثلة الراحلة أمل الصاوي – بطلة فيلم الصرخة – والتي قدمت شخصية فريدة في تاريخ السينما المصرية، ليس بفضل مسيرة فنية حافلة بالأعمال، بل من خلال دور واحد محوري ومؤثر، ترك بصمة عميقة، فقصتها هي قصة التقاطع النادر بين الفن والدعوة لقضية اجتماعية، ثم الاختيار الشخصي للعزلة.
تتضح فرادة قصة أمل الصاوي منذ لحظة دخولها عالم التمثيل، فقد كانت إحدى فتيات الصم والبكم، وقد تخرجت من معهد السمع والكلام في إمبابة، والذي تأسس في عام ١٩٦٨، هو أول مؤسسة في الشرق الأوسط تقدم خدمات متكاملة لتشخيص وعلاج ضعف السمع واضطرابات النطق.
وبذلك لم تكن أمل الصاوي مجرد ممثلة تجسد شخصية، بل كانت شخصية من صميم الواقع الذي يتناوله الفيلم، وهو ما أضفى على أدئها أصالة وواقعية استثنائية.

جاء اختيارها للفيلم من قبل المخرج محمد النجار، الذي استعان بها تحديدا لتأدية دور الفتاة الصماء «وفاء » في فيلمه «الصرخة » الذي عرض في عام ١٩٩١ وتشير بعض المصادر إلى أن المخرج زار المعهد بنفسه، بحثا عن فتاة تناسب الدور، فوقع اختياره على أمل الصاوي لما تتمتع به من جمال متميز و ملامح جميلة .
يظهر قرار المخرج بالبحث عن ممثلة من المجتمع الذي يمثله الفيلم التزاما نادرا بالأصالة في ذلك الوقت، فبدلا من الاستعانة بممثلة سمعية وتدريبها على لغة الإشارة، وهو أمر كان شائعا في السينما، اختار النجار أن يمنح الدور لمن تعيش التجربة فعلا، وهذا القرار لم يكن مجرد خيار فني، بل كان خطوة رائدة نحو تمثيل أكثر صدقا للأشخاص ذوي الإعاقة السمعية في السينما المصرية.
وقد انعكس هذا الالتزام على تفاصيل العمل نفسه، مما أثرى الفيلم بمستوى من العمق العاطفي والواقعية كان يصعب تحقيقه بوسائل أخرى.
جسدت أمل الصاوي شخصية «وفاء »، الفتاة الصماء التي تعمل في ورشة للملابس، حيث تدور أحداث الفيلم حول شخصية عمر ، الشاب الأبكم والأصم الذي يؤدي دوره الفنان الكبير نور الشريف، وتصف المعلومات المتوفرة العلاقة بين وفاء وعمر على أنها قصة حب.
دور وفاء لم يكن المحور الدرامي الرئيسي للفيلم، بل كان يمثل عنصرا من النقاء والحب غير المشروط في حياة عمر، الذي يتعرض للاستغلال والجشع من شخصيات أخرى، ولهذا يمكن اعتبار أن شخصية «وفاء » تقدم تباينا أخلاقيا مهما في سياق الفيلم، وتبرز كصوت صامت للحقيقة والصدق في مواجهة الخداع، مما يجعل دورها، على الرغم من محدودية مساحته، بالغ الأهمية من الناحية الموضوعية.
الصرخة وروايتها غير المعلنة
يعد فيلم «الصرخة » الذي كتبه كرم النجار، عملا سينمائيا تميز بالحرص على التفاصيل الواقعية ويظهر هذا الالتزام بشكل جلي في الشكر الذي قدمته أسرة الفيلم في بدايته، فقد توجهوا بالشكر بشكل خاص إلى «مديرة معهد السمع والكلام بإمبابة وأسرة المعهد لما قدموه من خدمات لأسرة الفيلم »، هذا الشكر الرسمي يؤكد أن التعاون مع المعهد لم يكن مجرد خطوة شكلية، بل كان جزءا أساسيا من عملية الإنتاج.
بالإضافة إلى ذلك تشير ملاحظات الفيلم إلى الاستعانة بخبير في لغة الإشارة، هو محمد فرج، الذي قام بتعليم الممثلين ومتابعتهم أثناء التنفيذ، وهذه التفاصيل تؤكد أن الفيلم لم يكتف باختيار ممثلة من مجتمع الصم، بل حرص أيضا على تقديم لغة الإشارة بشكل صحيح ودقيق على الشاشة، وهو ما يعكس جدية في التعامل مع القضية التي يطرحها الفيلم ويزيد من مصداقيته الفنية.
مسيرة فنية قصيرة ومزاعم مثيرة للجدل
بعد نجاحها في «الصرخة »، كان لأمل الصاوي ظهور فني آخر، وأخير، إذ شاركت في مسلسل «سور مجرى العيون » الذي عرض عام ١٩٩٣، وفيه أدت دورا صغيرا أيضا لفتاة صماء تدعى «وفاء »، لتقتصر مسيرتها الفنية على عملين فقط، كان لكلاهما ارتباط وثيق بتمثيل الصم والبكم.
بعد ظهورها في فيلم «الصرخة » ومسلسل «سور مجرى العيون »، انسحبت أمل الصاوي تماما من الحياة الفنية، وتقول بعض الأخبار أنها تزوجت عام ١٩٩٣ ، وكان زوجها أيضا من مجتمع الصم، وأنجبت منه ولدين وتفرغت بالكامل لحياتها الأسرية ورعاية أبنائها.
وتذكر بعض المصادر أنها التزمت دينيا وارتدت الحجاب، وقيل أيضا إنها ارتدت النقاب، وهذه الرغبة في العزلة تفسر بشكل كبير ندرة المعلومات الموثقة عن حياتها بعد عام ١٩٩٣، ويبدو أنها اتخذت قرارا واعيا بإنهاء علاقتها بالشهرة واحتضان دورها كزوجة وأم.
بعد غياب طويل عن الأضواء، عادت أمل الصاوي إلى الواجهة الإعلامية، من خلال تقارير عن وفاتها، في عام ٢٠٢٠، وتحديدا في شهري أبريل أو مايو.
وعلى الرغم من مسيرتها الفنية القصيرة التي اقتصرت على دورين فقط، فإن أمل الصاوي تركت إبصمة فنية ذا قيمة خاصة، وسيظل دورها في الصرخة نقطة مضيئة في تاريخ السينما المصرية، حيث مثل خطوة رائدة في مجال تمثيل الأشخاص ذوي الإعاقة السمعية على الشاشة بصدق وواقعية.