في اليوم العالمي للإبصار، تتجدد الدعوة إلى أن يرى المجتمع ذوي الإعاقة البصرية كما يجب أن يكونوا: مستقلين، فاعلين، ومؤثرين. من هنا يبرز مركز «بصيرة» كقصة نجاح مصرية خالصة، أعادت الأمل إلى مئات الأطفال والأسر، وفتحت أمامهم دروب التعليم والعمل والحياة.
في هذا الحوار الخاص، تكشف الدكتورة سامية سري مديرة المركز لـ«جسور» عن رؤيتها ورسالتها تجاه دعم الأشخاص ذوي الإعاقة البصرية وأهمية الكشف المبكر وأحدث ما حققته جهود المركز في التعليم والتأهيل والتوظيف.
تبدأ الدكتورة سامية حديثها برسالة عميقة المعنى، تقول فيها: «الدمج اليوم أصبح حقًّا، لكن الاستقلالية اختيار. من حق ذوي الإعاقة أن يكونوا مستقلين وفاعلين في المجتمع، وعلينا جميعًا أن ندعم هذا الحق، بدءًا من الأسرة والمدرسة والجامعة، ووصولًا إلى كل من يتعامل مع ذوي الإعاقة»
وتضيف أن الاستقلالية لا تتحقق إلا بالوعي والعمل المشترك بين الدولة والمجتمع المدني، مؤكدة أن دعم ذوي الإعاقة لم يعد ترفًا، بل هو واجب وطني وإنساني.

الكشف المبكر بداية طريق للاستقلالية
توضح الدكتورة سامية أن أولى خطوات تحقيق الاستقلالية تبدأ من الكشف المبكر، قائلة:
«الكشف المبكر يمكن أن يلغى نحو 8% من مسببات الإعاقة البصرية. فعندما نعرف في وقت مبكر أن الطفل يعاني من مشكلة بصرية، حتى لو كانت بسيطة كارتداء النظارات أو إجراء عملية صغيرة مثل الحول أو سقوط الجفن، فإن ذلك يصنع فرقًا هائلًا في جودة إبصاره، وفي ثقته بنفسه وقدرته على التعلم والاندماج»
ويعمل مركز بصيرة على تنفيذ حملات توعية شاملة في المدارس والحضانات، خاصة في القرى الأكثر فقرًا. فقد أجرى المركز مسوحات لأكثر من 200 ألف شخص، ونفذ تدريبات لمجموعات من العاملين في الميدان، أبرزهم «الزائرات الصحيات» في المدارس والرائدات الريفيات اللاتي يتمكنّ من دخول المنازل وتوعية الأمهات بأهمية الكشف المبكر، خصوصًا للأطفال الذين لا يرتادون الحضانات.
ومن مؤتمر 2019 إلى 2025. وعي أكبر وشراكات أوسع
تسترجع الدكتورة سامية بدايات العمل، فتقول إن المركز نظم مؤتمره الأول عام 2019 للتوعية بضعف البصر، وكان الهدف آنذاك تعريف المجتمع بالفارق بين ضعف البصر والإعاقة البصرية الكاملة، فالكفيف، كما تقول، لا يمثل سوى واحد من كل أربعة من ضعاف البصر.
«كثير من الناس لم يكونوا يعرفون كيف يصنفون ضعيف البصر، هل هو كفيف أم مبصر؟ هذا الالتباس جعلنا نركز على توعية المجتمع وتعريفه بهذه الفئة التي تحتاج إلى دعم خاص»

وتشير إلى أن مؤتمر 2025 شكّل نقلة نوعية. إذ شهد حضورًا واسعًا من الأطباء والخبراء في المجالين الطبي والتعليمي، إضافة إلى ممثلين عن الهيئات الحكومية والقطاع الخاص. وتقول إن هذه المشاركة الواسعة تعكس ارتفاع الوعي العام بالإعاقة البصرية واحتياجاتها.
وتتابع: «أنشأنا في مركز بصيرة أول عيادة متخصصة لضعاف البصر، ثم توسعنا بافتتاح عيادات مماثلة في عدد من المستشفيات بالقاهرة والإسكندرية، ليعرف الناس أن هناك بالفعل (عيادة ضعف بصر) متخصصة في توجيه المرضى نحو الحلول والمعينات المناسبة»

ولم تقتصر جهود المركز على الجانب الطبي، بل شملت التعاون مع شركات لتوفير المعينات البصرية بأسعار رمزية، ومعامل لإنتاج نظارات متخصصة كانت نادرة في السوق المصري حتى وقت قريب.
وعي المجتمع يتغير
تؤكد الدكتورة سامية أن التغير في وعي المجتمع أصبح ملموسًا من خلال زيادة عدد المترددين على العيادات التابعة للمركز. تقول: «بات الناس أكثر تقبّلًا لفكرة طلب المساعدة. في الماضي، كان كثير من ضعاف البصر، خصوصًا كبار السن، يستسلمون لضعفهم، لكن اليوم أصبحوا أكثر وعيًا بالحلول المتاحة التي تسهل حياتهم، مثل الاعتماد على الكتب الصوتية أو تغيير ألوان أدوات الطعام لتكون أكثر وضوحًا»التكنولوجيا بوابة الاستقلالية الجديدة
وترى الدكتورة سامية أن التكنولوجيا المساعدة غيّرت حياة المكفوفين وضعاف البصر بشكل جذري، موضحة:
«في السابق كان ذوو الإعاقة البصرية يعتمدون على من يسجل لهم المحتوى ليستمعوا إليه، أما الآن فبمجرد الضغط على الهاتف يمكن تحويل أي نص مكتوب إلى صوت في ثوانٍ. هذه تطبيقات بسيطة لكنها أحدثت ثورة في الاستقلالية»

وتضيف أن مركز بصيرة يهتم بتدريب العاملين في المدارس والجامعات على كيفية التعامل مع الطلاب المكفوفين وضعاف البصر. فالمركز عقد بروتوكولات تعاون مع وزارة التربية والتعليم وعدد من المدارس القومية والدولية، فضلًا عن شراكات مع جامعات كعين شمس والجامعة الأمريكية، تتيح مشاركة المتدربين من ذوي الإعاقة في تطوير المناهج الدراسية لزملائهم.
تدريب للحياة كلها
ولا يقتصر التدريب في المركز على الجانب الأكاديمي، بل يمتد إلى كل مجالات الحياة اليومية. تقول الدكتورة سامية:
«ندرب المدربين الرياضيين في الأندية، والعاملين في المناطق الترفيهية للأطفال، وحتى موظفي الفنادق على كيفية التعامل مع النزلاء المكفوفين. بدأ ذلك حين استضاف أحد الفنادق، الهلتون، أبطال الجودو من المكفوفين، فبادرنا بتدريب فريق العمل على استقبالهم بالشكل الصحيح»
وتضيف أن المركز لا يحدد سنًا معينة للمستفيدين، فهناك برامج مخصصة للأطفال والرضّع للحفاظ على ما تبقّى من البصر، وأخرى موجهة لكبار السن الذين ضعف بصرهم لاحقًا في حياتهم. لكل فئة برنامجها الخاص المصمم حسب احتياجاتها وبيئتها.
التعليم والدمج والتمكين
في الشق التعليمي، يحرص المركز على جعل الشخص الكفيف أو ضعيف البصر مستقلًا تمامًا في الوصول إلى مصادر المعرفة. تقول الدكتورة سامية:
«نطبع كتب الأطفال بطريقة برايل، ونستخدم المجسمات لتبسيط المفاهيم، أما الكبار فنحوّل النصوص المكتوبة إلى مواد صوتية. تعليم الحاسوب أيضًا جزء أساسي من التأهيل، بدءًا من استخدام الهاتف الذكي لتصفح البريد الإلكتروني والتواصل الاجتماعي، وصولًا إلى الكتابة على الحاسوب واستخدامه في العمل»
قصص نجاح وشراكات فاعلة
تعتبر الدكتورة سامية أن كل خريج استطاع الاندماج في المدرسة أو الجامعة أو سوق العمل هو قصة نجاح في حد ذاته، مشيرة إلى أن أكثر من مئة طالب من خريجي المركز اندمجوا في المدارس العادية، وأدوا امتحاناتهم عبر الحاسوب مثل أقرانهم تمامًا.
أما عن الشراكات، فتوضح أن المركز يتعاون مع وزارات التضامن، والتربية والتعليم، والصحة، والاتصالات، فضلًا عن المنظمة الدولية للعمل، وعدد من البنوك المصرية التي تبنت طباعة معاملاتها بلغة برايل أو بالصوت المسموع استجابة لتوجيهات البنك المركزي عام 2022.
نحو رؤية 2026
وعن خطط المركز المقبلة، تكشف الدكتورة سامية عن نية بصيرة إطلاق مبادرات جديدة في عام 2026 تركز على التوظيف الفعلي للأشخاص ذوي الإعاقة البصرية، بعيدًا عن النسبة القانونية المحددة بـ5%، مؤكدة أن «الهدف هو توظيف قائم على الكفاءة والجدارة»
كما تأمل في أن تتبنى وزارة الصحة إلزامية الكشف المبكر عن البصر في المستشفيات فور الولادة، لتفادي المضاعفات التي قد تؤدي إلى فقدان البصر.
وفي ختام حديثها، توجه الدكتورة سامية رسالة مؤثرة إلى الأسر:
«أقول للأهالي: لا تتنازلوا عن أحلام أبنائكم، تمسكوا بحقهم في أن يكونوا أشخاصًا ينجزون ويعيشون مثل أقرانهم تمامًا في التعليم والعمل والحياة. ولا تتنازلوا عن عيشهم بكرامة»