لم يتخيل يومًا أن أزمته الأولى في الحياة ستتبعها سنوات من الصمت المفاجئ، وُلد طفلًا يسمع ويرى العالم من حوله بوضوح، لكن في عمر التاسعة تسلل إليه التهاب السحايا ليترك فيه أثرًا أبديًا، وهو فقدان السمع.
كان المرض بداية منعطف قاسٍ، في حياة الطفل الغاني ناشيرو عبدالله، ليس فقط بسبب الإعاقة المفاجئة، بل بسبب الجهل المجتمعي آنذاك، وفي لحظة تبدلت حياته المليئة بالصخب لسكون تام، وأبقاه والداه في البيت لأنهما لم يعرفا بوجود مدارس للأطفال الصم، فبدا الأمر وكأن أبواب المعرفة قد أُغلقت في وجهه إلى الأبد.

ناشيرو عبد الله رئيس الإتحاد العالمي للصم المسلمين يحكى عن رحلته لـ ” جسور ” قائلا:”بعد عام كامل من العزلة، جاء الأمل ممثلًا في شخص ما عرّف والدَيَّ على مدرسة للصم، وهناك بدأت رحلتي الجديدة، لكن الطريق لم يكن سهلًا أبدًا. دخلتُ المدرسة وأنا لا أعرف لغة الإشارة، أراقب زملائي وهم يتواصلون بطلاقة بينما أشعر أنا بالتيه واليأس. كنتُ أتساءل مرارًا هل سأتمكن من اللحاق بهم؟ كانت معاناة مؤلمة ومحاولات مضنية للاندماج، ومع الوقت والإصرار، أصبحت لغة الإشارة مفتاح تعليمي وبوابة انتمائي، وراحتي الحقيقية داخل مجتمع الصم.
من دراسة النجارة إلى تعلم لغة الإشارة
ويكمل :” في المرحلة الابتدائية درستُ المواد العامة، وكان التركيز الأكبر على اللغة الإنجليزية، التي كانت العائق الأصعب لنا كطلاب صم، وفي الثانوية درستُ النجارة والأعمال الخشبية إلى جانب الاقتصاد والكتابة الإنجليزية، حيث كان المنهج موجهًا نحو إكسابنا مهارات عملية تساعدنا على إيجاد فرص عمل. لكنني لم أتوقف عند هذا الحد.
بعد الثانوية، التحق ناشيرو بالمعهد الوطني التقني للصم (NTID) التابع لمعهد روتشستر للتكنولوجيا (RIT) في الولايات المتحدة، وهناك حصل على بكالوريوس الخدمة الاجتماعية، لم يكتفِ بذلك، بل بدأ دراسة إدارة الموارد البشرية في RIT، ثم أكمل لاحقًا ماجستير الإدارة العامة (MPA) من الجامعة الأمريكية في واشنطن، كانت رحلة شاقة، مليئة بعقبات اللغة ونقص إتاحة الفرص، لكنها لم تكسر عزيمته، فقد كان الإصرار دائمًا سلاحه الأقوى.

وسط كل هذه التحديات – يجكي ناشيرو عبدالله – كان والدي هو السند الأول لي، ورغم أنني كنتُ واحدًا من تسعة أبناء، خصّني برعاية خاصة، ففي وقتٍ كان المحيطون ينصحون والديَّ بالتخلي عن تعليمي والاكتفاء بإتقاني حرفة بسيطة، كان أبي يرفض الاستسلام، مرددًا: “يا ناش، عندما تنهي تعليمك، ستصنع أشياء عظيمة لي ولوالدتك وللآخرين”. هذه الكلمات لم تكن مجرد تشجيع، بل كانت وقودًا يدفعني للاستمرار، ويقينًا يثبّت خطواتي في وجه كل شك.
ويستطرد :”عام 2005، وبين جدران NTID، انطلقت الشرارة التي غيّرت حياة آلاف الصم المسلمين حول العالم، شاركتُ في تأسيس اتحاد الصم المسلمين العالمي (GDMF) بعدما أدركتُ فجوة مؤلمة وهي ان المعرفة الإسلامية نادرًا ما تُترجم إلى لغة الإشارة، كان المسلمون الصم معزولين عن مساجدهم ومنظماتهم الدينية، غير قادرين على فهم دروس دينهم، ومن هنا تحولت الفكرة إلى حركة عالمية.
تأسيس اتحاد الصم المسلمين بداية العالمية
ويضيف إبن القارة السمراء: منذ تأسيس الاتحاد، عملنا على كسر الحواجز وجعل الأمة الإسلامية أكثر شمولًا وإتاحة، كانت البداية مع حوارات الأديان، حيث نظمنا لقاءات في جامعة جورجتاون وجامعة غالوديت وغيرها، لبناء جسور بين المسلمين وأتباع الديانات الأخرى.
ثم جاءت المؤتمرات الدولية من قطر عام 2013، إلى ماليزيا 2016، إندونيسيا 2019، غامبيا 2022، ثم النسخة الخامسة في مكة المكرمة عام 2025، ولم يقتصر الأمر على المؤتمرات، بل امتد إلى مبادرات إنسانية وخدمية.

في عام 2013، نسّقتُ أول عمرة للصم إلى السعودية، وكانت لحظة تاريخية صنعت أثرًا روحيًا عميقًا. كما أطلق الاتحاد برامج لتوزيع وجبات رمضان، ودعم الأعياد، ومشاريع الاعتماد على الذات في إفريقيا وآسيا وفلسطين، بالشراكة مع منظمات مثل الاتحاد الفلسطيني للصم، جمعية الصم الباكستانية، الاتحاد الماليزي للصم، وتنمية الصم المسلمين في غانا”.
هذا العمل- حسب تعبير ناشيرو – امتد صداه إلى العالم، حتى حصل الاتحاد على صفة استشارية خاصة من المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة (ECOSOC)، وهو اعتراف دولي يتيح له تمثيل الصم المسلمين على مستوى عالمي.
يلخص ناشيرو رحلته في أربع كلمات، وهى الإيمان، الصمود، الأمل،العمل، وأن التمسك بهذه الأشياء كانت السبيل لتحقيق حلمه، مضيفا ” كنت يوما ما طفلا يمكث في منزله، ظن الجميع أن رحلته انتهت قبل أن تبدأ، ثم بفضل الله وكرمه صرت قائد عالمي يقود حركة تمكين الصم المسلمين، وأيقنت أن كل ألم كان بذرة أمل، وكل عثرة كانت طريقًا إلى نجاح، وكل كلمة دعم من والدي كانت وعدًا تحقق.