في واحدة من أكثر الصور المأساوية التي تعكس حجم الألم الإنساني في غزة، تقف الطفلة هلا دهليز، ذات الاثني عشر ربيعا، أمام المرآة يوميا وهي تمسك بيدها مشطا صغيرا، تبحث بين خصلات شعر لم تعد موجودة، تفتش عن بقايا طفولة ضاعت بين أزيز الصواريخ وأوجاع الجراح.
تحكى هلا لـ “جسور” بصوت متهدج، ودموعها تتدفق من قلبها قبل عينيها: «كل يوم بأقف قدام المراية، بأمسك المشط وبأمشط، بس ما بألاقيش لي شعر.. أنا الحين رأسي متشوه وما بألعبش مع الأطفال».
منذ صغرها سمعت هلا أن الشعر هو تاج المرأة ودرة جمالها، لكن الاحتلال.. اسقط التاج الصغير من فوق رأس أميرتنا الطفلة.
من الفرح إلى المأساة
كانت هلا النازحة مع عائلتها من مدينة رفح إلى مواصي خانيونس، تقضي يوما عاديا من أيام رمضان. جلست مع أسرتها على مائدة الإفطار، وتناولت طعامها كغيرها من الأطفال، ثم خرجت لتلعب على المرجوحة مع صديقاتها، لم تكن تعلم أن دقائق معدودة ستغير مسار حياتها بالكامل.

تحكي ببراءة ممزوجة بالحزن: «كنت في رمضان بعد الفطور، رحت ألعب على المرجيحة مع صاحباتي. وفي المرجيحة قصفوا.. وشعري علق بالمرجيحة. بعد ما علق بالمرجيحة، نقبع جلدة الرأس، الجلدة والفروة على الرأس. وأجوا الإسعاف وأخذوني على المستشفى».
175 غرزة.. جسد صغير يواجه الألم
في المستشفى دخلت الطفلة في رحلة علاج مؤلمة حيث أجريت لها أول عملية جراحية عاجلة، تم خلالها خياطة فروة رأسها ب 175 غرزة، غير أن الاستفاقة من العملية لم تكن تحمل أي بشرى سوى مشهد أكثر قسوة.. فقدان كامل لشعرها الذي كان يزين طفولتها.
تقول بصوت مرتجف: «صحيت من العملية ما لقيت لي شعر.. ضليت أبكي وأبكي.. وصار معي انهيار عصبي، وأغمي علي في المستشفى. ماما وبابا كانوا عندي، وحكولي: ما تخافيش، هتسافري وهتتعالجي وهيطلع لك شعر».
لكن الوعود لم تتحقق، وبقيت هلا عالقة في دوامة الألم، قضت شهرين في المستشفى وهي تعاني من التهابات وتقرحات شديدة في رأسها، ومع انعدام الإمكانيات الطبية، قرر الأطباء تسريحها إلى بيتها بلا علاج شاف.
طفولة سرقت وأحلام تحطمت
قبل إصابتها، كانت هلا طفلة متفوقة ومليئة بالطموح.. كانت الأولى على مدرستها، وحصلت على شهادات تقدير متتالية، وحلمها أن تصبح طبيبة لعلاج الأطفال.
تصف حياتها قبل الإصابة قائلة: «كان روتيني اليومي إني أصحى الصبح وأروح على المدرسة وأمشط شعري. بعد المدرسة أدرس وألعب مع صاحباتي. كنت كل سنة آخذ شهادة تقدير.. كان حلمي أطلع دكتورة وأعالج الأطفال».
اليوم تغيرت حياتها بالكامل: «الحين ما بأروحش على المدرسة.. ما بأطلعش من باب الخيمة.. بضل قاعدة ومكتئبة.. الأطفال بيخافوا مني وبيسألوني: ليش ما لك شعر؟».

حتى العيد الذي كان من المفترض أن يحمل معها الفرح، تحول إلى ذكرى موجعة، «أنا اتصابت قبل العيد بثلاث أيام.. كنت مجهزة أواعي العيد والبوكالات (أساور الخرز)، وما لبستش أواعي العيد.. قضيت العيد كله في المستشفى».
المرآة التي تعكس الجرح
أقسى اللحظات التي تعيشها هلا هي تلك التي تقف فيها أمام المرآة تنظر إلى رأسها المشوه، تمسك المشط، لكن لا تجد شعرا لتمشطه.. تقول: «كل يوم بأقف قدام المراية.. بأمسك المشط وأمشط، بس ألاقيش شعر. كنت أشوف خواتي وصاحباتي بيمشطوا شعورهم، وأنا ما عنديش شعر».
هذا المشهد المتكرر أصبح جزءا من معاناتها اليومية، وأعمق ما يكشفه ليس فقدان الشعر فقط، بل شعور الفقدان الكامل لهويتها كطفلة كانت تفخر بجمالها وبراءتها.
التنمر.. جرح آخر فوق الجرح
لم يقتصر الأمر على الألم الجسدي، بل امتد إلى ألم نفسي قاس. الأطفال من حولها بدأوا يتجنبونها ويسألونها بأسئلة جارحة: «ليش ما لك شعر؟»، ما جعلها تختار العزلة. تقول: «الأطفال بيخافوا مني.. ما بألعبش معهم.. طول النهار قاعدة في الخيمة مكتئبة».
التنمر حرمها من أبسط حقوقها في الطفولة: اللعب، الضحك، الشعور بالانتماء.
خيمة بلا دواء ولا غذاء
تعيش هلا اليوم في خيمة تفتقر إلى مقومات الحياة الأساسية، ورغم أن لديها أدوية، إلا أنها لا تستطيع تناولها بسبب غياب الغذاء. تقول: «أنا ما بأشربش علاجي.. لأنه ما فيش أكل.. لا خضروات ولا فواكه ولا أي شيء».
هذا الوضع يفاقم معاناتها، فدواء بلا طعام يعني مزيدا من الخطر على صحتها، ومزيدا من التدهور لحالتها الجسدية والنفسية.
أحلام مؤجلة ونداء أخير
رغم كل ما تعيشه، لا تزال هلا متمسكة بأمل صغير، أمل في أن ينقذها العالم من واقعها القاسي. ترفع صوتها بنداء إنساني: «أنا بأطلب من كل العالم يساعدوني في إخراجي من غزة عشان أكمل علاجي، ويطلع لي شعر، ويعملوا لي تجميل عشان التشوهات. أنا بأحتاج السفر للخارج عشان أرجع زي ما كنت.. جميلة.. وأحقق حلمي وأصير دكتورة».
أبعاد مأساة إنسانية
قصة هلا ليست مجرد حادثة فردية، بل هي مرآة لمأساة آلاف الأطفال في غزة، الذين تسرق منهم الطفولة في لحظة.
من الناحية الطبية هي بحاجة عاجلة إلى عمليات معقدة في فروة الرأس وزراعة شعر، غير متوفرة داخل القطاع، من الناحية النفسية تعاني من اكتئاب وانهيار نتيجة فقدان شعرها وتشوه رأسها وتعرضها للتنمر، ومن الناحية الاجتماعية حرمت من المدرسة، من اللعب، ومن أبسط حقوقها كطفلة.
أنقذوا هلا
بين جدران خيمة مهترئة، تعيش هلا دهليز أيامها، تمسك مشطها الصغير كل صباح، تتذكر كيف كان شعرها الطويل ينسدل على كتفيها، وكيف كانت تحلم أن تصبح طبيبة. اليوم، لم يتبق لها سوى أن تناشد العالم: «ساعدوني.. أنا طفلة بدي أرجع زي ما كنت، جميلة، وألعب زي باقي الأطفال».

هلا ليست مجرد اسم في خبر، بل قصة حية تختصر آلام طفولة جريحة تبحث عن أمل، عن علاج، عن حق طبيعي في الحياة. إنها صرخة لكل الضمائر الحية.. أنقذوا هلا.. انقذوا الطفولة.